نواصل معكم اخواني واخواتي القراء الكرام نشر كتاب
لفضيلة الشيخ الدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء ( الخامس والعشرين) :
87- اقطع الطريق على المعترضين ..
من أكثر ما يوغر صدور بعض الناس على بعض ما يجنيه
اللسان من مفاسد ..
ومن ذلك استعجال بعض الناس بالاعتراض على الحديث
ومقاطعة المتكلم دون تروٍّ ونظر .. فيثور عند ذلك جدال عقيم يوغر الصدور ويفسد
النفوس ..
لن تستطيع إصلاح جميع الناس وتأديبهم بالآداب الشرعية
.. أو تدريبهم على مهارات متميزة ..
ودعنا نتجاوز مرحلة التنظير التي تحلو لبعض الناس أن
يدندن عليها دائماً بقوله : المفروض الناس يفعلون كذا .. والمفروض يتعودون على كذا
.. دعك من هذا .. وأدِّ الصلاة على الميت الحاضر – كما يقال - ..
أعني أننا ينبغي عند تعاملنا مع الأخطاء أن لا ننشغل
ببحث ما يجب على الآخرين أن يفعلوه بل ماذا يجب علينا نحن أن نفعله ..
عندما تريد أن تتكلم بشيء غريب قد يستعجل الآخرون
الاعتراض عليه .. ينبغي عليك أن تغلق عليهم أبواب الاعتراض بمقدمات تجيبهم فيها عن
أسئلتهم قبل أن يطرحوها .. بل وتزيل بها استغرابهم قبل أن يتكلموا به ..
وبعض الناس يحسن فعلاً أن يغلق الأبواب على المعترض
قبل أن يشعره باعتراضه ..
أذكر أن شيخاً كبير السن جلس في مجلس فتكلم عن حادثة
خصومة رآها بين اثنين في محطة وقود .. وكيف أن شجارهما زاد واشتد حتى حملا إلى
مخفر الشرطة ..
فقفز أحد الجالسين – من الثرثارين – مشاركاً في القصة
فقال : نعم صحيح .. وحصل بينهما كذا .. وفلان هو المخطئ .. وبدأ يذكر تفاصيل لم
تحدث ..
فالتفت إليه الشيخ وكأني به يكاد ينفجر .. لكنه تماسك
وقال بكل هدوء :
أنت هل حضرت الحادثة؟ قال : لا
قال : فهل حدثك أحد ممن حضروها؟ قال : لا
قال : فهل اطلعت على محاضر التحقيق؟ قال : لا
عندها صاح الشيخ وقال : طيب يا … كيف تكذبني وأنت لا
تدري عن شيء!!
فأعجبتني مقدماته قبل اعتراضه ..
ولو أنه اعترض دون أن يذكر مقدمات يغلق بها الأبواب
على صاحبه .. لكان لصاحبه مجال واسع للخروج من الموقف ولو بالكذب ..
فنحن أحياناً نحتاج عندما نريد أن نقرر أشياء أن نقدم
بمقدمات نقنع بها المخالفين قبل أن يعترضوا ..
لما خرجت قريش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه في بدر .. كان بعض العقلاء فيها لا يريدون الخروج .. لكن قومهم أكرهوهم
عليه ..
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهم .. وتأكد أنهم وإن
حضروا المعركة فلن يقع منهم قتال للمسلمين ..
فلما اقترب صلى الله عليه وسلم من ميدان المعركة ..
أراد أن ينبه أصحابه لذلك .. وأن ينهاهم عن قتلهم .. لكنه يعلم أنه سيقع في قلوب
بعض الناس، سؤال : كيف لا نقتلهم وهم خرجوا لحربنا !! لماذا استثنى هؤلاء بالذات؟!
فقدم مقدمة أزال بها الاعتراضات ثم ذكر التوجيه ..
قام صلى الله عليه وسلم في أصحابه وقال : إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم
وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا ..
انتهى هذه مقدمة ..
ثم قال : فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله
..
ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا
يقتله ..
ومن لقي العباس بن عبد المطلب .. عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلا يقتله ..
فإنه إنما خرج مستكرها ..
فمضى الصحابة على ذلك .. وبدؤوا يتحدثون في مجالسهم
بذلك ..
فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا
وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس ..
والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف ..
فبلغت الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فالتفت
إلى عمر فقال : " يا أبا حفص " ..
قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأبي حفص ..
قال صلى الله عليه وسلم يا أبا حفص : " أيضرب
وجه عم رسول الله بالسيف! " ..
فاستبشع ذلك .. وانتفض .. كيف يرد أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم .. أليس مسلماً .. فصاح قال :
يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف .. فوالله لقد
نافق ..
فندم أبو حذيفة رضي الله عنه .. على ما تكلم به ..
وقال :
ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ .. و لا
أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة ..
فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي الله عنه ..
نصيحة ..
كن ذكياً وتغدَّ بهم
قبل أن يتعشوا بك !
88- انتظر .. لا تعترض ..!!
أذكر أن محاضراً كان يتكلم عن فن الحوار ..
فعرض شيئاً من قصة يوسف عليه السلام ..
فلما وصل إلى قوله تعالى : ( ودخل معه السجن فتيان
قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل
الطير منه ) ..
جعل يتأمل في الحاضرين ثم سألهم :
ودخل معه السجن فتيان؟! أيهما دخل قبل الآخر .. يوسف
أم الفتيان؟
فصاح أحدهم : يوسف ..
فصاح آخر : لا .. لا .. الفتيان ..
فانطلق ثالث : لا .. لا .. بل يوسف .. يوسف ..
فاستذكى رابع وقال : دخلوا مع بعض!!
وتكلم خامس .. وارتفع اللغط .. حتى ضاع الموضوع
الأساسي ..
ويبدو أن المحاضر قصد ذلك ..
فجعل يتأمل وجوههم .. والوقت يمضي ..
ثم ابتسم ابتسامة عريضة .. وأشار لهم بخفض الأصوات
وقال : وما المشكلة!! دخل قبلهم أو دخلوا قبله!! هل تستحق المسألة كل هذا الخلاف؟!
فعلاً .. لو تأملت واقعنا لوجدت أننا في أحيان كثيرة
نكون ثقلاء على الآخرين بكثرة اعتراضنا على ما يقولون فيكون أحدهم متحمساً في قصة
يحكيها .. ثم يفاجأ بمن يعترض ويفسد عليه متعة الحديث بالاعتراض على أشياء لا تؤثر
في القصة شيئاً ..
نعم .. لا تكن ثقيلاً تعترض على كل شيء ..
أذكر أن أخي الأصغر سعود لما كان طفلاً في السابعة ..
دخل المسجد لصلاة العشاء .. ويبدو أنه كان مستعجلاً وتأخر الإمام في المجيء لإقامة
الصلاة .. فلما ضاق بذلك ذرعاً توجه نحو المؤذن وكان شيخاً كبيراً ضعيف السمع ووقف
خلفه .. ثم قال محاولاً تغيير صوته : أقم الصلاة .. وكان قد قبض على طرف أنفه بيده
..
ثم ولى هارباً ..
أما المؤذن فما كاد يسمع ذلك حتى تحرك ناهضاً ليقيم
الصلاة .. فنبهه بعض المأمومين .. فجلس ..
كان موقفاً طريفاً .. لكني لم أورده لطرافته ..
وإنما لأني جلست بعدها في مجلس فذكر أحد الجالسين
القصة وقال في أثنائها : وكان سعود مستعجلاً لأنه سيذهب إلى البحر مع أبيه - مع
العلم بأن الرياض في صحراء ولا تقع على ساحل بحر - .. فتحيرت هل أفسد عليه قصته
وأعترض .. أم أن المعلومة غير مؤثرة في القصة فلا داعٍ للاعتراض واكتساب العداوات
.. فآثرت الثاني وسكتت ..
وأحياناً قد تعترض على شيء أنت غير فاهمه أصلاً ..
لعل له عذراً وأنت تلوم ..
كان زياد لطيفاً حريصاً على نصح الناس ..
وقف يوماً عند إشارة مرور فإذا به يسمع صوتاً عالياً
لأغاني غربية .. تحير من أين هذا الصوت .. وأخذ يتلفت يبحث عن مصدره .. فإذا هو من
السيارة المجاورة له ..
وإذا صاحبها قد زاد صوت المذياع إلى أعلى درجاته ..
حتى أسمع البعيد والقريب ..
جعل صاحبي يضرب على منبه سيارته ويحاول أن ينبه ذاك
الرجل إلى خفض صوت مذياعه .. لكن الرجل لا يلتفت ولا يرد .. يبدوا أنه لشدة
انسجامه مع ما يسمع صار لا يدري عما حوله ..
حاول زياد أن يتبين وجه السائق الذي أسدل غترته على
جانبي وجهه .. وبعد جهد رآه فإذا لحيته تملأ وجهه !!
ازداد العجب .. شخص بهذه الهيئة بدل أن يستمع إلى
القرآن يستمع الأغاني!! لا وبصوت عالٍ أيضاً!!
أضاءت الإشارة خضراء .. ومشى الجميع ..
أصرّ زياد على مناصحة الرجل فجعل يمشي وراءه .. وقف
الرجل عند دكان .. ونزل ليشتري منه حاجة ..
أوقف زياد سيارته وراءه وصار يتأمله وهو يمشي فإذا
الثوب قصير .. واللحية تملأ عارضيه ..
تسابقت إلى قلبه الوساوس .. أظنه نزل ليخرج الآن بعلبة
سجائر!!
خرج الرجل فإذا في يده مجلة إسلامية!!
لم يصبر زياد .. وأخذ ينادي بلطف : يا أخي .. لو سمحت
.. هيه ..
لم يرد عليه الرجل ولم يلتفت ..
رفع صوته : هيه .. هيه .. لو سمحت .. يا أخي .. اسمع
..
وصل الرجل سيارته وركبها .. ولم يلتفت ..
نزل زياد وقد غضب وأقبل إليه .. وقال : يا أخي ..
الله يهديك .. ما تسمع ..
نظر الرجل إليه وابتسم وشغل سيارته .. فاشتغل المذياع
مباشرة بصوت مزعج جداً ..
فثار زياد .. وقال : يا أخي حرام عليك .. أزعجت الناس
.. تريد تسمع الأغاني اسمعها لوحدك .. بدل ما تسمع قرآن تسمع أغانٍ؟!
فجعل الرجل يزيد ابتسامته .. والأغاني بأعلى صوت ..
ثار زياد أكثر .. وجعل وجهه يحمرّ .. وصار يرفع صوته
ليسمعه ..
فلما رأى الرجل أن الأمر وصل إلى هذا الحد .. جعل
يشير بيديه إلى أذنيه وينفضهما ..
ثم أخرج دفتراً صغيراً من جيبه ومكتوب على أول ورقة
منه :
أنا رجل أصم لا أسمع .. فضلاً اكتب ما تريد!!
لمحة ..
قال الله تعالى : (وكان
الإنسان عجولاً ) فانتبه لا تغلب عجلتك تؤدتك ..