نواصل معكم زوارنا الكرام نشر كتاب
للدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء العشرون :
72- العفو عن الآخرين ..
لا تخلو الحياة من عثرات تصيبنا من الناس ..
فهذه مزحة ثقيلة .. وتلك كلمة نابية .. وتعدٍّ على حاجات شخصية ..
خصومة بين اثنين في مجلس .. أو اختلاف في وجهات نظر .. أو آراء ..
وبعضنا يكبر الموضوع في نفسه .. وليس عنده استعداد للعفو أو النسيان ..
أو ربما لم يملك استعداداً لقبول أعذار الآخرين والعفو عنهم ..
بعض الناس يعذب نفسه بعدم عفوه .. يملأ صدره بأحقاد تشغله تعذبه ..
ولله در الحسد ما أعدله .. بدأ بصاحبه فقتله ..
فلا تعذب نفسك .. هناك أشياء لا يمكن أن تعاقب عليها ..
اِنسَ الماضي .. وعش حياتك ..
لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً .. واطمأن الناس ..
خرج حتى جاء الكعبة فطاف بها سبعاً على راحلته ..
فلما قضى طوافه .. دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة .. ففتحت له
فدخلها ..
فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ..
ورأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها ..
فقال صلى الله عليه وسلم : قاتلهم الله .. جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام !!
ما شأن ابراهيم والأزلام ؟!
ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من
المشركين ..
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك الصور كلها فطمست ..
ثم وجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده .. ثم طرحها ..
ثم وقف على باب الكعبة ..
وقد اجتمع له الناس في المسجد مسلمين والكفار ينظرون إليه ..
ثم صلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم .. فاطلع فيها .. ودعا بماء فشرب منها
وتوضأ ..
والناس يبتدرون وضوءه ..
والمشركون يتعجبون من ذلك .. ويقولون : ما رأينا ملكاً قط ولا سمعنا به مثل
هذا ..
ثم أقبل إلى مقام إبراهيم فأخره عن الكعبة .. وكان ملصقا بها ..
ثم قام صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة فقال :
لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له .. صدق وعده .. ونصر عبده .. وهزم
الاحزاب وحده ..
ألا كل مأثرة .. أو دم .. أو مال يُدَّعى .. فهو موضوع تحت قدمي هاتين ..
إلا سدانة البيت .. وسقاية الحاج .. ثم جعل يقرر بعض الأحكام الشرعية فقال :
أَلَا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا .. ففيه الدية مغلظة مائة من
الابل .. أربعون منها في بطون أولادها ..
ثم نظر إلى رؤوس قريش وساداتها .. فصاح بهم :
يا معشر قريش .. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية .. وتعظّمها بالآباء
..
الناس من آدم .. وآدم من تراب ..
ثم تلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
ثم جعل يتأمل في وجوه الكفار ..
وهو في عزه وملكه عند الكعبة .. وهم في ذلهم وضعفهم ..
في مكان طالما كذبوه فيه .. وأهانوه .. وألقوا الأوساخ على رأسه وهو ساجد
..
وكفار قريش بين يديه .. مهزومين .. أذلاء .. صاغرين ..
ثم قال : يا معشر قريش .. ما ترون أني فاعل فيكم؟
فانتنفضوا .. وقالوا : تفعل بنا خيراً .. أنت أخ كريم .. وابن أخ كريم ..
عجباً!! هل نسوا ما كانوا يفعلونه بهذا الأخ الكريم .. أين سبكم : مجنون ..
ساحر .. كاهن؟!
ما دام أخاً كريماً .. وأبوه أخ كريم!! فلماذا حاربتموه؟!
أين تعذيبكم للمسلمين الضعفاء ..
هذا بلال واقف .. وآثار التعذيب لا تزال في ظهره ..
وتلك نخلة قريبة قتلت عندها أمية .. وزوجها ياسر .. وهذا ابنهما عمار مع
المسلمين يشهد ..
أين حبسكم له مع المسلمين الضعفاء .. ثلاث سنين في شعب بني عامر .. حتى
أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع..؟!! ما رحمتم بكاء الصغير .. ولا أنين الشيخ الكبير
.. ولا حاملاً ولا مرضعاً!!
أين حربكم له في بدر .. وأحد .. وتحزبكم عليه في الخندق؟
أين منعكم له من دخول مكة معتمراً .. لما جاءكم قبل سنين .. وتركتموه
محبوساً في الحديبية .. ممنوعاً من دخول مكة؟
أين صدكم لعمه أبي طالب عن الإسلام وهو على فراش الموت؟
أين..؟ أين..؟ شريط طويل من الذكريات المؤلمة يمر أمام ناظريه صلى الله
عليه وسلم ..
ليس هو فقط .. بل أمام ناظري أبي بكر وعمر .. وعثمان وعلي .. وبلال وعمر ..
فكل واحد من هؤلاء .. له مع قريش قصة حزينة ..
كان يستطيع أن ينزل بهم أقسى أنواع العقوبة .. فهم أعداء محاربون .. معتدون
.. خونة ..
نعم خونة .. خانوا صلح الحديبية .. واعتدوا ..
كانوا مجرمين .. متحيرين .. لا يدرون ماذا سيُفعل بهم ..
فإذا به صلى الله عليه وسلم يدوس على الأحقاد .. ويحلق بهمته عالياً ..
ويقول كلمة يهتف بها التاريخ : اذهبوا .. فأنتم الطلقاء ..
فينطلقون .. مستبشرين .. تكاد أرجلهم تطير من الفرح ..
أحقاً عفا عنا؟!!
ثم تلفت صلى الله عليه وسلم ينظر حول الكعبة .. فإذا ثلاثمائة وستون صنماً
.. تعبد من دون الله .. عند بيته المعظّم..!!
فجعل صلى الله عليه وسلم يضربها بيده الكريمة .. فتهوي .. وهو يقول :
جاء الحق .. وزهق الباطل .. جاء الحق .. وما يبدئ الباطل وما يعيد ..
عدد من كفار قريش العتاة البغاة .. الذين لهم تاريخ أسود مع المسلمين ..
فروا من مكة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها ..
منهم صفوان بن أمية ..
فإنه فر منها هارباً .. وقد تحير أين يذهب ..
فمضى إلى جدة ليركب منها إلى اليمن ..
فلما رأى الناس عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ونسيانه للماضي الأليم
..
جاء عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه .. وقد خرج هارباً منك .. ليقذف
نفسه في البحر .. فأّمِّنه .. صلى الله عليك ..
قال صلى الله عليه وسلم بكل بساطة : هو آمن ..
قال عمير : يا رسول الله .. فأعطني آية يعرف بها أمانك .. فأعطاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة .. حتى إذا رآها صفوان .. عرفها فوثق
في صدق عمير ..
خرج بها عمير حتى أدركه .. وهو يريد أن يركب في البحر ..
فقال : يا صفوان .. فداك أبي وأمي .. الله .. الله في نفسك أن تهلكها ..
فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ..
فقال صفوان : ويحك .. أغرب عني فلا تكلمني .. فإنك كذاب .. وكان خائفاً من
مغبة ما كان فعله بالمسلمين ..
قال : أي صفوان .. فداك أبي وأمي .. رسول الله .. أفضل الناس .. وأبر الناس
.. وأحلم الناس ..وخير الناس .. وهو ابن عمك .. عزُّه عزك .. وشرفُه شرفك ..
وملكُه ملكك ..
قال : إني أخافه على نفسي ..
قال : هو أحلم من ذاك وأكرم ..
فرجع صفوان معه ..
حتى وصلا إلى مكة .. فمضى به عمير حتى وقف به على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ..
فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني ..
قال صلى الله عليه وسلم : صدق ..
قال صفوان : أما دخولي في الإسلام .. فاجعلني بالخيار فيه
شهرين ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ..
ثم أسلم صفوان بعد ذلك ..
ما أجمل العفو عن الناس .. ونسيان الماضي الأليم .. هذا خلق بلا شك لا
يستطيعه إلا العظماء .. الذين يترفعون بأخلاقهم عن سفالة الانتقام .. والحقد ..
وشفاء الغيظ .. فالحياة قصيرة - على كل حال - .. نعم هي أقصر من أن ندنسها بحقد
وضغينة ..
حتى في الحاجات الخاصة .. كان صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً ..
قال المقداد بن الأسود رضي الله عنه : قدمت المدينة أنا وصاحبان لي ..
فتعرضنا للناس فلم يضفنا أحد ..
فأتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فذكرنا له .. فأضافنا في منزل
وعنده أربع أعنز ..
فقال : احلبهن يا مقداد .. وجزئهن أربعة أجزاء .. وأعط كل إنسان جزءاً فكنت
أفعل ذلك ..
فكان المقداد كل مساء .. يحلب فيشرب هو وصاحباه .. ويبقى جزء النبي عليه
الصلاة والسلام .. فإن كان موجوداً شربه .. وإن كان غائباً حفظوه له حتى يرجع ..
وفي ليلة من الليالي .. تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في المجيء إليهم ..
واضطجع المقداد على فراشه .. فقال في نفسه :
إن النبي صلى الله عليه وسلم .. قد أتى أهل بيت من الأنصار .. فأطعموه ..
فلو قمت فشربت هذه الشربة ..
فلم تزل به نفسه حتى قام فشربها .. ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً
..
قال المقداد : فلما دخل في بطني وتقار .. أخذني ما قدم وما حدث ..
فقلت : يجيء الآن النبي صلى الله عليه وسلم جائعاً ..ظمآناً .. فلا يرى في
القدح شيئاً .. فيدعو علي ..
فسجيت ثوباً على وجهي .. يعني من الهم ..
فلما مضى بعض الليل ..
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم .. فسلم تسليمة تسمع اليقظان .. ولا توقظ
النائم ..
والمقداد على فراشه .. ينظر إليه .. فأقبل صلى الله عليه وسلم إلى إنائه ..
فكشف عنه فلم ير شيئاً .. فرفع بصره إلى السماء ..
ففزع المقداد .. وقال : الآن يدعو عليَّ ..
فتسمع ماذا يقول .. فإذا به صلى الله عليه وسلم .. يقول :
اللهم اسق من سقاني .. وأطعم من أطعمني ..
فلما سمع المقداد ذلك .. أَغتنم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ..
قام فأخذ الشفرة السكين .. فدنا إلى الأعنز .. ليذبح إحداها .. ليطعم النبي
صلى الله عليه وسلم ..
فجعل يجسهن ينظر أيتهن أسمن ليذبحها ..
فوقعت يده على ضرع إحداهن فإذا هي حافل .. مليئة باللبن ..
ونظر إلى الأخرى فإذا هي حافل ..
فنظرت فإذا هي كلهن حفل .. فحلب في إناء كبير .. فملأه حتى علت رغوته ..
ثم أتى به النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال : اشرب ..
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة اللبن .. قال :
أما شربتم شرابكم الليلة يا مقداد؟
فقال : اشرب يا رسول الله .. فقال : ما الخبر يا مقداد؟
قال : اشرب ثم الخبر .. فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ناول القدح
للمقداد .. فقال المقداد : اشرب يا رسول الله ..فشرب ثم ناوله القدح .. قال : اشرب
يا رسول الله ..
قال المقداد .. فلما عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روي ..
وأصابتني دعوته ..
ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض ..
فقال رسول الله : إحدى سوآتك يا مقداد ! .
فقلت : يا رسول الله .. إنك قد أبطأت علينا الليلة .. وكنت جائعاً فقلت في
نفسي لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعشى عند بعض الأنصار .. وقص عليه القصة
كلها .. وكيف أن الأعنز حلبت في ليلة واحدة مرتين .. على غير العادة ..
كان من أمري كذا .. فصنعت كذا وكذا ..
فقال : ما كانت هذه إلا رحمة الله .. ألا كنت آذتنى توقظ صاحبيك هذين
فيصيبان منها ..
فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها .. وأصبتُها معك من أصابها
من الناس ..
وجهة نظر ..
الحياة أخذ وعطاء ..
فاجعل عطاءك أكثر من أخذك ..
73- الكرم
قال لهم : من سيدكم؟
قالوا : سيدنا فلان .. على أننا نبخِّله ..
فقال : وأي داء أدوأُ من البخل ؟!! بل سيدكم الأبيض الجعد فلان ..
هكذا جرى النقاش بين إحدى القبائل وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما أسلموا فسألهم عن سيدهم ليقره عليهم بعد إسلامهم أو يغيره ..
نعم وأي داء أدوأ من البخل ..
ما أقبح البخل وما أعرض الناس عنه .. وما أثقله عليهم ..
لا يكاد يقيم في بيته وليمة يتحبب بها إليهم .. ولا يكاد يهدي هدية .. ولا
يكاد يعتني بجمال مظهره .. ولا يهتم بزكاء برائحته .. توفيراً للمال .. ورضاً
بالدون ..
أما الكريم فهو مفضال على أصحابه .. قريب من أحبابه .. إن اشتاقوا للاجتماع
والأنس ففي بيته .. وإن نقص على أحدهم شيء تفضل عليه به .. فيأسر نفوسهم بكرمه ..
ويستعبد قلوبهم بإحسانه ..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وينبغي عند إكرام غيرك أن تكون نيتك حسنة .. للتآلف مع إخوانك المسلمين ..
وكسب مودتهم .. والتقرب إلى الله بالإحسان إليهم .. لا لأجل شهرة أو رئاسة أو كسب
مديحهم وثنائهم ..
قال صلى الله عليه وسلم : أول من تسعر بهم النار ثلاثة .. وذكر
منهم رجلاً كان ينفق ليقال جواد أي كريم .. فلم يعمل ابتغاء وجه الخالق وإنما
ابتغى وجه المخلوق .. رياءً وسمعة ..
وإليك الحديث كاملاً :
قال سفيان :
دخلت المدينة .. فإذا أنا برجل قد اجتمع الناس عليه ..
فقلت : من هذا؟
قالوا : أبو هريرة ..
فدنوت منه حتى قعدت بين يديه .. وهو يحدث الناس ..
فلما سكت وخلا .. قلت : أنشدك الله .. بحق وحق .. لما حدثتني حديثا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وعلمته ..
فقال أبو هريرة : افعل .. لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم .. عقلته وعلمته ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة ( شهق ) .. فمكث قليلاً .. ثم أفاق ..
فقال : لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم .. وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. فمكث بذلك .. ثم أفاق .. ومسح وجهه .. فقال
:
افعل .. لأحدثنك بحديث حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وأنا وهو في هذا البيت .. ليس فيه أحد غيري وغيره ..
ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى .. ثم مال خارّاً على وجهه .. وأسندته طويلاً
.. ثم أفاق .. فقال :
حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة .. نزل إلى العباد ليقضي بينهم .. وكل
أمة جاثية ..
فأول من يدعو به : رجل جمع القرآن .. ورجل يقتل في سبيل الله .. ورجل كثير
المال ..
فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟
قال : بلى يا رب ..
قال : فماذا عملت فيما علمت؟
قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ..
فيقول الله له : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
فيقول الله عز وجل : أردت أن يقال : فلان قارئ .. فقد قيل ..
ويؤتى بصاحب المال فيقول : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟
قال : بلى ..
قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟
قال : كنت أصل الرحم .. وأتصدق ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد .. فقد قيل ذلك ..
ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله .. فيقال له : فيم قتلت؟
فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك .. فقاتلت حتى قتلت ..
فيقول الله : كذبت ..
وتقول الملائكة له : كذبت ..
ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء .. فقد قيل ذلك ..
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال
:
يا أبا هريرة .. أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم
القيامة ..
فإذا أحسنت النية في كرمك فأبشر بالخير ..
وأولى من تحسن إليهم ليحبوك ويكرموك .. أهل بيتك .. الأم .. الأب .. الزوجة
.. الأولاد .. ثم الأقرب فالأقرب .. ابدأ بنفسك ثم بمن تعول .. وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ..
ولا بد من التفريق بين الكرم والإسراف ..
دلف رجل في شارع قديم فمر ببيت متهالك .. فإذا فتاة صغيرة قد جلست على عتبة
الباب بثياب رثة .. وهيئة فقيرة .. فسألها : من أنت؟
قالت : أنا ابنة حاتم الطائي ..
فقال : عجباً !! ابنة حاتم الطائي الكريم الجواد .. على هذا الحال؟!!
فقالت : كرم أبي صيرنا إلى ما ترى!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس .. ولم يكن جشعاً ينظر في مصلحة
نفسه ولا يلتفت إلى غيره ..
كلا ..
قال ابو هريرة رضي الله عنه :
والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع .. وإن كنت
لأشد الحجر على بطني من الجوع ..
ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه .. فمر أبو بكر .. فسألته عن
آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني .. فلم يفعل ..
ثم مرَّ عمر .. فسألته عن آية من كتاب الله .. ما سألته إلا ليستتبعني ..
فمر فلم يفعل ..
ثم مرَّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم .. فتبسم حين رآني .. وعرف ما في وجهي وما في
نفسي ..
ثم قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : اِلْحَقْ ..
ومضى .. فاتبعته .. فدخل .. فاستأذن .. فأذن لي .. فدخلت ..
فوجد لبناً في قدح .. فقال : من أين هذا اللبن؟
قالوا : أهداه لك فلان .. أو فلانة ..
قال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله ..
قال : اِلْحَقْ أهل الصفة .. فادعهم لي ..
قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام .. لا يأوون إلى أهل ولا إلى مال .. إذا أتته
صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً .. وإذا أتته هدية أرسل إليهم .. وأصاب
منها وأشركهم فيها .. فساءني ذلك ..
وقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة !! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة
أتقوى بها .. فإذا جاءوا .. أمرني .. فكنت أنا أعطيهم .. وما عسى أن يبلغني من هذا
اللبن ..
ولم يكن من طاعة الله .. وطاعة رسوله بدٌ .. فأتيتهم .. فدعوتهم ..
فأقبلوا .. فأذن لهم .. وأخذوا مجالسهم من البيت .. فقال : يا أبا هر ..
قلت : لبيك يا رسول الله .. قال : خذ .. فأعطهم ..
فأخذت القدح .. فجعلت أعطيه الرجلَ فيشرب حتى يروى .. ثم يرد عليَّ القدح
.. فأعطيه الآخر .. فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح .. فأعطيه الآخر فيشرب حتى
يروى .. ثم يرد علي القدح ..
حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. وقد روي القوم كلهم .. فأخذ القدح فوضعه
على يده .. فنظر إليَّ فتبسم فقال : أبا هر .. قلت : لبيك يا رسول الله .. قال :
بقيت أنا وأنت؟ قلت : صدقت يا رسول الله .. قال : اقعد فاشرب .. فقعدت
فشربت .. فقال : اشرب .. فشربت ..
فما زال يقول : اشرب .. حتى قلت : لا .. والذي بعثك بالحق .. ما أجد له
مسلكاً .. قال : فأرني .. فأعطيته القدح .. فحمد الله وسمَّى .. وشرب الفضلة ..
وللكرم أسرار ..
أحياناً لا تتكرم على الشخص مباشرة .. وإنما تتكرم على من يحبهم .. فيحبك
..
زارني أحد الأصدقاء يوماً .. وكان يحمل كيساً فيه عدد من الحلويات والألعاب
.. أظنها لم تكلفه بضعة ريالات .. وضعها بجانب الباب لما دخل .. وقال : هذه للأولاد
..
فرح بها الصغار .. وفرحت بها أنا لأنه أشعرني أنه يحب إدخال السرور على
أولادي ..
كان أحد السلف عالماً .. لكنه كان فقيراً ..
فكان طلابه يهدون إليه بين فترة وأخرى .. أنواعاً من الهدايا .. تمر ..
دقيق ..
وكان الطالب إذا أهدى إليه .. لم يزل الشيخ مكرماً مقبلاً عليه .. ما دامت
هديته باقية ..
فإذا انتهت .. رجع إلى طبعه الأول ..
ففكر أحد طلابه بهدية يحملها إلى الشيخ .. تكون معقولة الثمن .. وتطول مدة
بقائها ..
فأهدى إليه كيس ملح ..
ولو استشرتني في هديتين ستهدي إحداهما إلى صديق ..
أولهما زجاجة عطر رائع .. ثمين ..
أو ساعة حائطية تكتب عليها إهداءً باسمه ..
لاخترت الساعة .. لأنها يطول بقاؤها .. ويراها دائماً ..
وأذكر أن أحد طلابي أهديته ساعة حائطية فيها إهداء باسمه ..
وتخرج من الكلية .. ومرت السنين ..
ثم زرت إحدى المدن فتفاجأت به يحضر المحاضرة ويدعوني إلى بيته ..
فلما دخلت مجلس الضيوف فإذا به يشير إلى الساعة معلقة على الحائط .. ويقول
: هذه أغلى هدية عندي ..
وقد مر على تخرجه سبع سنين ..
بقي أن تعلم أن هذه الساعة لم تكلف إلا شيئاً يسيراً .. لكن قيمتها
المعنوية أعلى وأكبر ..
وجهة نظر ..
كسب قلوب الناس فرص قد لا تتكرر