نواصل معكم زوارنا الكرام نشر كتاب
الدكتور محمد العريفي حفظه الله
*.* استمتع بحياتك *.*
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء الثاني عشر:
43- مفاتيح الأخطاء!
التعامل مع الأخطاء فن .. فلكل باب مفتاح .. وللقلوب دروب ..
إذا وقع أحد في خطأ كبير .. وانتشر خبره في الناس .. وبدأ الناس
يترقبون ماذا تفعل فأشغلهم بشيء .. حتى يكون عندك وقت لدراسة الأمر .. حتى لا
يتجرّأ أحد على مثل فعله .. أو يتعودوا على مثل هذا الخطأ..
خرج صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة بني المصطلق ..
وأثناء رجوعهم .. نزلوا يستريحون ..
فأرسل المهاجرون غلاماً لهم اسمه : جهجاه بن مسعود .. ليستقي لهم من
البئر ماءً ..
وأرسل الأنصار غلاماً لهم اسمه : سنان بن وبر الجهني .. ليستقي لهم
أيضاً ..
فازدحم الغلامان على الماء .. فكسع أحدهما صاحبه .. أي ضربه على
مؤخرته ..
فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ..
وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ..
فثار الأنصار .. وثار المهاجرون ..
واشتد الخلاف .. والقوم قادمون من حرب .. ولا يزالون بسلاحهم!!
فانطلق صلى الله عليه وسلم .. حتى اطفأ ما بينهم ..
فتحركت الأفاعي..
غضب عبد الله بن أبي بن سلول .. وعنده رهط من قومه الأنصار ..
فقال : أوقد فعلوها!! قد نافرونا .. وكاثرونا في بلادنا .. والله ما
أعدُّنا وجلابيب قريش هذه .. إلا كما قال الأول : سَمِّن كلبك يأكلك .. وجوِّع
كلبك يتبعك !!
ثم قال الخبيث : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة .. ليخرجن الأعزُّ
منها الأذلَّ ..
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ..
أحللتموهم بلادكم .. وقاسمتموهم أموالكم .. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم
.. لتحولوا إلى غير داركم ..
وجعل الخبيث يهدد ويتوعد .. والذين عنده من أنصاره المنافقين ..
يؤيدونه ويشجعونه ..
كان من بين الجالسين غلام صغير .. اسمه زيد ابن أرقم ..
فمضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ..
وكان عمر بن الخطاب جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ..
فثار .. كيف يجرؤ هذا المنافق على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا
الأسلوب القبيح .. ورأى عمر أن قتل الأفعى أولى من قطع ذيلها .. ورأى أن قتل ابن
سلول .. يقضي على الفتنة في مهدها ..
ولكن أن يقتله رجل من قومه الأنصار .. أسلم من أن يقتله رجل من
المهاجرين ..
فقال عمر : يا رسول الله ..
مر به عباد ابن بشر الأنصاري فليقتله ..
لكن رسول الله كان أحكم .. فهم قادمون من حرب .. والناس بسلاحهم ..
والنفوس مشحونة .. وليس من المناسب إثارتهم أكثر ..
فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل
أصحابه ؟!
لا يا عمر .. ولكن آذن الناس بالرحيل ..
وكان الناس قد نزلوا للتوّ واستظلوا .. فكيف يأمرهم بالرحيل .. في
شدة الحر والشمس ..
ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يرتحل في شدة الحر ..
ارتحل الناس ..
وبلغ عبد الله بن سلول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
.. أخبره زيد بن أرقم بما سمع منه ..
فأقبل ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وجعل يحلف بالله
.. ما قلت .. ولا تكلمت به .. كذب عليَّ الغلام ..
وكان ابن سلول رئيساً في قومه .. شريفا عظيما ..
فقال الأنصار : يا رسول الله .. عسى أن يكون الغلام أوْهمَ في حديثه
.. ولم يحفظ ما قال الرجل ..
وجعلوا يدافعون عن ابن سلول ..
فأقبل سيد من سادة الأنصار .. أسيد بن حضير .. فحياه بتحية النبوة
وسلم عليه .. وقال :
يا رسول الله .. والله لقد رحت في ساعة منكرة .. ما كنت تروح في
مثلها!!
فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟
قال : أي صاحب يا رسول الله؟
قال : عبد الله بن أبي ..
قال : وما قال؟
قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزُّ منها الأذلَّ ..
فثار أسيد وقال : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت .. هو والله
الذليل .. وأنت العزيز ..
ثم قال أسيد مخففاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا رسول الله .. ارفق .. لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له
الخرز ليتوجوه .. فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً ..
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم .. ومضى براحلته .. والناس منهم من
يجمع متاعه .. ومنهم من يرحل راحلته ..
وجعلت الحادثة تنتشر .. وصارت أحاديث الجيش : .. لماذا ارتحلنا في
هذا الوقت .. ماذا قال؟ كيف تعامل معه؟ صدق ابن سلول .. لا بل كذب ..
وبدأت الشائعات تزيد .. والكلام يزاد فيه ويُنقَص .. واضطرب الجيش ..
وهم في طريقهم من قتال .. ويمرون بقبائل أعداء يتربصون بهم ..
فشعر صلى الله عليه وسلم أن الجيش بدأ ينقسم .. فأراد أن يشغلهم عن
المشكلة .. وعن النقاش فيها .. لأنهم يزيدون أوارها .. ويشعلون الفتنة بين
المهاجرين والأنصار ..
وصار الناس يترقبون متى ينزلون حتى يجتمع بعضهم إلى بعض ويتحدثوا في
الأمر ..
فمشى صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك والشمس فوقهم
.. ومشى ومشى حتى غابت الشمس .. فظن الناس أنهم سينزلون للصلاة ويرتاحون .. فلم
ينزل إلا دقائق معدودات .. صلوا ثم أمرهم فارتحلوا .. وواصل المشي ليلتهم حتى أصبح
..
ثم نزل فصلى الفجر .. ثم أمرهم فارتحلوا ..
ومشوا صباحهم حتى تعبوا .. وآذتهم الشمس ..
فلما شعر أن الإرهاق والتعب سيطر عليهم .. فليس فيهم جهد للكلام ..
أمرهم فنزلوا .. فما كادت أجسادهم تمس الأرض .. حتى وقعوا نياما ..
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عما حدث ..
ثم أيقظهم .. وارتحل بهم .. وواصل حتى دخل المدينة .. وتفرق الناس في
بيوتهم عند أهليهم ..
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين :
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ
خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ
* يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَاالْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) ..
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم أخذ بأذن الغلام زيد بن
أرقم .. وقال : هذا الذي أوفى لله بأذنه ..
وبدأ الناس يسبون ابن سلول .. ويلومونه ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى عمر وقال : أرأيت يا عمر .. لو قتلته
يوم ذكرت ذلك .. لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ..
ثم سكت عنه صلى الله عليه وسلم .. فلم يتعرض له بشيء ..
وأحياناً إذا وقع الخطأ أمام الناس قد تحتاج أن تنكر عليه بأسلوب
مناسب .. وإن كان أمام الناس ..
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يوماً مع أصحابه ..
وكانوا في أيام قحط .. واحتباس مطر .. وقلة زرع ..
إذ أتاه أعرابي فقال :
يا رسول الله جهدت الأنفس .. وضاعت العيال .. ونهكت الأموال .. وهلكت
الأنعام ..
فاستسق الله لنا .. فإنا نستشفع بك على الله .. ونستشفع بالله عليك
..
فتغير رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لما سمعه يقول نستشفع بالله عليك
..
فالشفاعة والواسطة تكون من الأدنى إلى الأعلى .. فلا يجوز أن يقال إن
الله يشفع عند خلقه .. بل يأمرهم جل جلاله .. لأنه أعلى وأرفع ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ويحك!! أتدري ما تقول؟!!
ثم جعل صلى الله عليه وسلم يقدس الله .. ويردد .. سبحان الله .. سبحان
الله ..
فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ..
ثم قال :
ويحك!! إنه لا يُسْتَشفعُ بالله على أحد من خلقه .. شأنُ الله أعظم
من ذلك ..
ويحك!! أتدري ما الله؟! إن عرشه على سماواته لهكذا .. وقال بأصابعه
مثل القبة عليه .. وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ..
ولكن إذا وقع الخطأ من الشخص لوحده قد يكون هناك شيء من اللين ..
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة رضي الله
عنها في ليلتها ..
فوضع نعليه من رجليه .. ووضع رداءه .. واضطجع على فراشه ..
فلبث كذلك .. حتى ظن أن عائشة قد رقدت ..
فقام من على فراشه .. ولبس رداءه ونعليه .. رويداً ..
ثم فتح الباب رويداً .. وخرج .. وأغلقه رويداً ..
فلما رأت عائشة ذلك .. دخلتها غَيْرةُ النساء .. وخشيت أنه ذهب إلى
بعض نسائه ..
فقامت .. ولبست درعها .. وخمارها .. وانطلقت في إثره .. تمشي وراءه
.. دون أن يشعر بها ..
فانطلق صلى الله عليه وسلم .. يمشي في ظلمة الليل .. حتى
جاء مقبرة البقيع ..
فوقف عندها .. ينظر إلى قبور أصحابه .. الذين عاشوا عابدين .. وماتوا
مجاهدين .. واجتمعوا تحت الثرى .. ليرضى عنهم من يعلم السرَّ وأخفى ..
أخذ صلى الله عليه وسلم ينظر إلى قبورهم .. ويتذكر
أحوالهم ..
ثم رفع يديه فدعا لهم .. ثم أخذ ينظر إلى القبور .. ثم رفع يديه
ثانية فدعا لهم ..
ثم لبث ملياً .. ثم رفعها فاستغفر لهم ..
وأطال القيام .. وعائشة تنظر إليه من بعيد ..
ثم التفت صلى الله عليه وسلم وراءه راجعاً ..
فلما رأت ذلك عائشة .. انحرفت إلى ورائها راجعة .. خشية أن يشعر بها
..
فأسرع صلى الله عليه وسلم مشيه .. فأسرعت عائشة ..
فهرول .. فهرولتْ .. فأحضرَ – أي جرى مسرعاً - فأحضرتْ وجرت ..
حتى سبقته إلى البيت فدخلت ..
ونزعت درعها وخمارها .. وأقبلت إلى فراشها فاضطجعت عليه .. كهيئة
النائمة .. ونفَسها يتردد في صدرها ..
فدخل صلى الله عليه وسلم البيت .. فسمع صوت نَفَسها ..
فقال :
مالك يا عائش .. حشياً رابية ..
قالت : لا شيء ..
قال : لتخبرني .. أو ليخبرني اللطيف الخبير ..
فأخبرته بالخبر .. وأنها غارت عليه .. فانطلقت تنظر أين يذهب ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أنت الذي رأيتُ أمامي؟
قالت : نعم ..
فدفعها في صدرها .. دفعة .. ثم قال :
أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ..
فقالت عائشة : مهما يكتمِ الناسُ .. يعلمه الله عز وجل ..؟
قال : نعم .. ثم قال صلى الله عليه وسلم مبيناً لها خبر
خروجه :
إن جبريل عليه السلام .. أتاني حين رأيت .. ولم يكن يدخل عليك وقد
وضعت ثيابك ..
فناداني .. فأخفى منك فأجبته وأخفيته منك .. وظننت أنك قد رقدت ..
فكرهت أن أوقظك .. وخشيت أن تستوحشي .. فأمرني أن آتي أهل البقيع فأستغفرَ لهم
..
نعم .. كان صلى الله عليه وسلم .. سهلاً لـيِّناً لا يكبر
الأخطاء ..
بل كان يرددها في الناس ويقول :
كما عند مسلم : "لا يفرك مؤمن مؤمنة .. إن كره
منها خلقاً .. رضي منها آخر .."
أي لا يبغضها بغضاً تاماً .. لأجل خلق عندها .. أو طبعٍ يلازمها ..
بل يغفر سيئتها لحسنتها .. فإذا رأى خطأها تذكر صوابها .. وإذا شاهد
سوءها تذكر حسنها ..
ويتغاضى عما يكرهه من خلقها .. وما لا يرضاه من تعاملها ..
إضاءة ..
ليس اللوم على من لا يقبل النصيحة .. وإنما على من يقدمها بأسلوب غير
مناسب ..
44- فَـكِّك الحزمة ..!!
إذا كان الخطأ واقعاً من مجموعة .. فالأصل أن تنصحهم وهم مجتمعون ..
ولكن قد تحتاج أحياناً أن تفكك الحزمة .. أعني ..أن تكلم كل واحد على
حدة .. وتنصحه.
مثال : مررت بمجلس منزلكم .. وسمعت أخاك يتحدث مع أصدقائه – وكانوا
ضيوفاً عنده – ويخططون أن يسافروا إلى بلد كذا .. وهذا البلد لا يسلم من يذهب إليه
غالباً من التعرض للمحرمات الكبار .. كالزنا وشرب الخمر ..
أردت أن تنصح ..
من الأساليب أن تدخل عليهم وتنصحهم بكلمتين .. وتخرج .. لكن نتيجة
ذلك قد لا تكون ناجحة كثيراً ..
فما رأيك أن تفكك الحزمة .. وتكسر كل عود على حدة ..
كيف؟!
إذا تفرقوا اجلس مع من تظنه أعقلهم .. وقل : يا فلان .. بلغني أنكم
ستسافرون .. وأنت أعقلهم .. وتعلم أن هذا البلد لا يسلم المسافر إليه من البلايا
والفتن .. وقد يعود مريضاً أو مبتلى .. فما رأيك أن تكسب أجرهم .. وتقترح عليهم أن
يسافروا إلى بلد آخر .. تستمتعون فيه بالأنهار والبحار .. واللعب والأنس .. من غير
معصية ..
لا شك أنه إذا سمع منك هذا الكلام بالأسلوب الحسن .. سيقل حماسه إلى
النصف ..
اذهب إلى آخر .. وقل له مثل ذلك ..
ثم قل للثالث مثله ..
دون أن يشعر كل منهم بحديثك لصاحبه ..
فتجد أنهم إذا اجتمعوا .. وتشجَّع أحدهم واقترح تغيير البلد .. وجد
من يعاونه ..
أو لو اكتشفت يوماً أن أولادك يجتمعون في غرفة أحدهم .. وينظرون إلى
شريط فيديو خليع .. أو مقاطع بلوتوث فيها
صور خليعة .. أو نحو ذلك ..
فقد يكون من المناسب أن تنصح كلاً منهم على حدة .. لكيلا تأخذهم
العزة بالإثم ..
هل لهذا شاهد من السيرة؟ نعم ..
لما اشتد الخلاف بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبين قريش ..
اجتمعت قريش وقاطعت النبي وجميع أقاربه من بني هاشم .. وكتبت صحيفة
أن بني هاشم لا يُشترى منهم .. ولا يُباع عليهم .. ولا يُزوَّجون .. ولا يُتزوَّج
منهم ..
وحُبس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في وادٍ
غير ذي زرع ..
واشتدت الكربة على الصحابة حتى أكلوا الشجر ..
بل مضى أحدهم يوماً ليبول .. فسمع صوتاً تحته .. فنظر فإذا قطعة من
جلد بعير .. فأخذها .. وغسلها وشواها بالنار .. ثم فتّـتَـتها .. وخلطها بالماء ..
وجعل يتموَّن بها ثلاثة أيام !!
فقال صلى الله عليه وسلم يوماً لعمه أبي طالب – وكان
محبوساً معهم في الشعب - :
يا عم إن الله قد سلط الأَرَضة على صحيفة قريش .. فلم تدع فيها اسماً
هو لله إلا أثبتته فيها .. ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان ..
أي إن دابة الأرض أكلت صحيفة قريش فلم يبق منها إلا عبارة : باسمك
اللهم!!
فعجب أبو طالب وقال : أربك أخبرك بهذا؟ قال : نعم ..
قال : فوالله ما يدخل عليك أحد .. حتى أخبر قريشاً بذلك ..
ثم خرج إلى قريش فقال :
يا معشر قريش .. إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا ..
فهلمَّ صحيفتكم ..
فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها ..
وإن كان كاذباً .. دفعت إليكم ابن أخي فافعلوا به ما شئتم ..
فقال القوم : قد رضينا .. فتعاقدوا على ذلك ..
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فزادهم ذلك شراً ..
وظل بنو هاشم وبنو المطلب في واديهم .. حتى كادوا أن يهلكوا ..
وكان من كفار قريش رجال رحماء ..
منهم : هشام بن عمرو ..
وكان ذا شرف في قومه ..
فكان يأتي بالبعير قد
حمله طعاماً .. وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً ..
حتى إذا بلغ به فم الشعب
.. خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم ..
ومضت الايام ورأى هشام
.. أنه لا طاقة له بإطعامهم كل ليلة .. وهم كثير ..
فقرر أن يسعى لنقض
الصحيفة الظالمة .. ولكن أنى له ذلك وقريش قد أجمعت عليها ..
فاتبع أسلوب تفكيك
الحزمة ..
مشى إلى زهير بن أبي
أمية .. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ..
فقال : يا زهير أرضيت أن
تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء .. وأخوالك حيث علمت؟ لا يباع لهم ولا
يبتاع منهم .. ولا يُنَكَّحون ولا يُنكحُ إليهم؟!
أما إني أحلف بالله لو
كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام .. - يعني أبا جهل .. وكان أشدهم عداوة للمؤمنين
وتعصباً للمقاطعة .. – ما تركهم على هذا الحال ..
قال : ويحك يا هشام ..
فماذا أصنع؟
إنما أنا رجل واحد والله
لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها ..
قال : قد وجدت رجلاً ..
قال : من هو؟
قال : أنا ..
قال زهير : أبغنا ثالثاً
..
قال هشام : فاكتم عني ..
فذهب إلى المطعم بن عدي
.. وكان رجلاً عاقلاً .. فقال له : يا
مطعم .. أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف .. وأنت شاهد على ذلك .. موافق لقريش
فيه؟!
قال : ويحك فماذا أصنع؟
إنما أنا رجل واحد ..
قال : وجدت لك ثانياً ..
قال : من؟ قال : أنا ..
قال : أبغنا ثالثاً.
قال : قد فعلت .. قال :
من هو؟
قال : زهير بن أبي أمية
..
قال : أبغنا رابعاً ..
قال : فاكتم عني ..
فذهب إلى أبي البختري بن
هشام .. فقال له ما قال لصاحبيه ..
فتحمس لذلك .. وقال :
وهل تجد أحدا يعين على هذا؟
قال : نعم ..
قال : من هو؟
قال : زهير بن أبي أمية
والمطعم بن عدي وأنا معك ..
قال : أبغنا خامساً ..
فذهب هشام إلى زمعة بن
الأسود .. فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ..
فقال له : وهل على هذا
الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟
قال : نعم .. فلان وفلان
..
فاتفقوا جميعاً على هذا
الرأي .. وتوعدوا عند "حطم الحجون " ليلاً بأعلى مكة .. فاجتمعوا هنالك
..
وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا
على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها ..
وقال زهير : أنا أبدؤكم
فأكون أول من يتكلم .. ثم تقوموا أنتم فتتكلمون ..
فلما أصبحوا غدوا إلى
مجالسهم حول الكعبة .. حيث يجتمع الناس ويتبايعون ..
وغدا زهير بن أبي أمية
عليه حلة ..
فطاف بالبيت سبعاً .. ثم
أقبل على الناس وصرخ :
ياااا أهل مكة أنأكل
الطعام..؟ ونلبس الثياب..؟ وبنو هاشم هلكى!! لا يباع لهم ولا يبتاع منهم .. والله
لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ..
فصرخ أبو جهل .. وكان في
مجلس مع أصحابه .. قال : كذبت .. والله لا تشق ..
فقام زمعة بن الأسود
وصرخ : بل أنت والله أكذب .. ما رضينا كتابتها حين كتبت ..
فالتفت إليه أبو جهل
ليرد عليه .. ففاجأه البخترى قائماً يقول : صدق زمعة .. لا نرضى ما كتب فيها ولا
نقر به ..
فالتفت أبو جهل إلى
البخنري ..
فإذا بالمطعم بن عدى
يصرخ : صدقتما وكذب من قال غير ذلك .. نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ..
وقام هشام بن عمرو وقال
مثل قولهم ..
فتحير أبو جهل .. وسكت
هنية ثم قال : هذا أمر قُضِي بليل .. تشوور فيه بغير هذا المكان ..
ثم انطلق المطعم بن عدي
إلى الكعبة .. وتوجه إلى الصحفية ليشقها .. فوجد دابة الأرض قد أكلتها .. إلا
باسمك اللهم ..
كن ذكياً ..
الطبيب الحاذق يتلمس أولاً بأصابعه ..
فيختار الموضع المناسب قبل غرز الإبرة ..
45- جلد
الذات !!
من الذكريات ..
أنا خرجنا مرة للبر ..
وكان معنا أبو خالد .. صديق لنا نظره ضعيف جداً ..
كنا نخدمه .. نقرب إليه
الماء .. التمر .. القهوة .. وهو يردد : لا بد أن أساعدكم .. أريد أن أشتغل معكم
.. كلفوني بأي عمل ..
ونحن ننهاه عن ذلك ..
ذبحنا شاة معنا ..
وقطعناها ووضعناها في القدر .. تمهيداً لطبخها .. ولم نشعل النار بعد ..
وانشغلنا بنصب الخيمة ..
وترتيب الأغراض ..
تحركت الشهامة في أبي
خالد – ويا ليتها لم تفعل - فقام وتوجه إلى القدر .. فرأى اللحم .. فأدرك أن أول
شيء سنفعله هو أن نصب الماء على اللحم .. فتوجه إلى الأغراض في السيارة .. وجعل
يتلمس الأغراض .. مولد كهرباء .. أسلاك .. مصابيح .. أربع مطارات بلاستيك فيها ماء
.. وبنزين .. وأغراض أخرى ..
فالتقط أقرب مطارة إليه
.. وأقبل بها مبتهجاً إلى القدر .. وأفرغ نصفها فيه ..
لمحه أحدنا .. فصرخ به
.. لا .. لا .. أبو خالد ..
وهو يردد : خلوني أشتغل
.. خلوني ..
فسحبنا المطارة منه
فوراً .. وغرقنا في الضحك الذي يغالبه البكاء ..
لأننا اكتشفنا أنها مطارة
البنزين .. وليست مطارة الماء ..!!
وتغدينا على خبز وشاي ..
لم تفسد الرحلة .. بل
كانت من أمتع الرحلات ..
ولماذا نعذب أنفسنا بأمر
قد انتهى ..
وأذكر أيضاً :
لما كنت في الثانوية
خرجت مع بعض الزملاء في رحلة .. تعطلت بطارية إحدى السيارات ..
أقبلنا بسيارة أخرى
وأوقفناها أمامها لنوصل ببطاريتها البطارية المتعطلة ..
أقبل طارق ووقف بين
السيارتين .. وشبك الأسلاك في بطارية السيارة الأولى .. ثم شبكها في البطارية
المتعطلة .. ثم أشار لأحد الشباب .. شغل السيارة ..
ركب صاحبنا .. وكان ناقل
الحركة ( القير ) على رقم واحد .. فما إن شغل السيارة حتى قفزت السيارة إلى الأمام
وصكت ركبتي طارق بين صدامي السيارتين .. ووقع على الأرض مصاباً ..
وصاحبنا في السيارة يردد
: أشغل مرة ثانية؟!!
أبعدنا السيارتين ..
وساعدنا طارق على المشي .. كان يعرج ويتألم من ركبتيه بشدة ..
لكنه أعجبني أنه لم يزد
ألمه بصراخ أو سبّ .. أو توبيخ .. بل ابتسم وأظهر الرضى ..
وما فائدة الصراخ؟
والأمر قد انتهى .. وصاحبنا أدرك خطأه ..
إذا أردت أن تستمتع
بحياتك .. فاعمل بهذه القاعدة : 'لا تهتم بصغائر الأمور'
نحن أحياناً نعذب أنفسنا
.. ونجلدها ..
ونضيق ونتألم .. والألم
لا يحل المشكلة ..
افرض أنك دخلت إلى حفل
عرس .. وقد لبست ثوباً حسناً .. ووضعت فوق رأسك غترة وعقالاً .. حتى صرت أجمل من
العريس!!
وبدأت تصافح الناس
واحداً واحداً .. وفجأة أقبل طفل من ورائك .. وتعلق بطرف غترتك .. وسحبها فسقطت
الغترة والعقال .. والطاقية .. وصار شكلك مضحكاً ..
كيف تتصرف؟
كثير منا يتعامل مع هذه
المشكلة بأسلوب هو ليس حلاً لها ..
يركض وراء الصغير ..
يصرخ .. يسب .. يلعن ..
والنتيجة : أنه حقق ما
كان يريده الطفل من جذب انتباه .. وضجة .. وأضحك الناس عليه ..
وربما صوره بعضهم وصار
بلوتوثاً يتناقلونه ..!!
أنت هنا – حقيقة – لا
تعذب الطفل إنما تعذب نفسك ..
أو افرض أنك .. لبست
ثوباً جديداً .. ربما لم تسدد قيمته بعد ..
وذهبت إلى شركة لتقدم
على وظيفة ..
مررت بأحد الأبواب كان
مدهوناً بالطلاء للتوّ .. وبجانبه لوحة تحذيرية لم تنتبه لها ..
وفجأة مسحت نصف الطلاء
بثوبك .. وطفق عامل الطلاء يصرخ بك ساباً غضباباً ..
كيف تتعامل مع هذه
المشكلة؟
نحن في كثير من الأحيان
أيضاً نتعامل معها بأسلوب ليس حلاً لها ..
نثور .. نسبُّ العامل ..
لِمَ لم تضع لوحة واضحة .. فيرد عليك بغضب .. وقد تكون النتيجة أن تتلطخ بتراب
الأرض أكثر مما تلطخت بطلاء الباب!!
على رسلك .. تدري أنت
الآن ماذا تفعل؟! إنك تعذب نفسك .. تجلد ذاتك ..
وقل مثل ذلك لو تزينت
وذهبت خاطباً .. فمرت بك سيارة وأنت خارج من البيت .. ورشت عليك من ماء كان
مجتمعاً على الأرض .. هل ستعذب نفسك فتصرخ وتزعق بالسيارة وركابها .. وهي قد
ولَّتك ظهرها ..
وكذلك ..
لا داعي لنتذكر دائماً
الآلام التي مستنا في حياتنا ..
محمد صلى الله عليه وسلم مرت به لحظات حزينة في حياته ..
حتى جلس يوماً مع زوجه
الحنون عائشة .. في لحظة ساكنة .. فسألته
:
هل أتى عليك يوم أشد
عليك من يوم أحد؟
مرَّت تلك المعركة في
ذاكرة النبي ..
آآآه .. ما أقسى ذلك
اليوم .. يوم قُتل عمه حمزة وهو من أحب الناس إليه ..
يوم وقف ينظر إلى عمه
وقرة عينه .. وقد جُدع أنفه .. وقطعت أذناه .. وشُقَّ بطنه .. ومُزِّق جسده ..
يوم كسرت أسنانه ..
وجُرح وجهه .. وسالت منه الدماء ..
يوم قتل أصحابه بين يديه
..
يوم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. وقد نقص سبعون من
أصحابه .. فرأى النساء الأرامل والأطفال اليتامى .. يبحثون عن أحبابهم وآبائهم ..
فعلاً .. كان ذلك اليوم
قاسياً ..
كانت عائشة تنتظر الجواب
.. فقال صلى الله عليه وسلم :
ما لقيت من قومك كان أشد
منه ..
يوم العقبة .. إذ عرضت
نفسي ..
ثم ذكر لها قصة استنصاره
بأهل الطائف .. وتكذيبهم له .. ورمي سفهائهم له بالحجارة حتى أدموا قدميه ..
ومع وجود هذه الآلام في
تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم .. إلا أنه كان
لا يسمح لها أن تنغص عليه استمتاعه بالحياة ..
لا تستحق الالتفات إليها
.. وقد مضت آلامها وبقيت حسناتها ..
إذن لا تقتل نفسك بالهمّ
..
وكذلك لا تقتل الناس
بالهم واللوم ..
نحن أحياناً نتعامل مع
بعض المشاكل بأساليب هي في الحقيقة ليست حلاً لها ..
كان
الأحنف بن قيس سيد بني تميم ..
لم
يكن ساد قومه بقوة جسد .. ولا كثرة مال .. ولا ارتفاع نسب ..
وإنما
سادهم بالحلم والعقل ..
حقد
عليه قوم ..
فأقبلوا
إلى سفيه من سفهائهم وقالوا له :
هذه
ألف درهم على أن تذهب إلى سيد بني تميم .. الأحنف بن قيس .. فتلطمه على وجهه ..
مضى
السفيه .. فإذا الأحنف جالس مع رجال .. محتبياً بكل رزانة .. قد ضم ركبتيه إلى
صدره .. وجعل يحدث قومه ..
اقترب
السفيه منه .. ودنا .. ودنا .. فلما وقف عنده .. مدَّ الأحنف إليه رأسه ظاناً أنه
سيسرّ إليه بشيء ..
فإذا
بالسفيه يرفع يده ويلطم الأحنف على وجهه لطمة كادت تمزق خده !!
نظر
الأحنف إليه .. ولم يحلّ حبوته .. وقال بكل هدوووء :
لماذا
لطمتني؟!!
قال
: قوم أعطوني ألف درهم على أن ألطم سيد بني تميم ..
فقال
الأحنف .. آآآه .. ما صنعت شيئاً ..
لست
سيد بني تميم ..!
قال
: عجباً!! فأين سيد بني تميم ..
قال
: هل ترى ذاك الرجل الجالس وحده .. وسيفه بجانبه؟
وأشار
إلى رجل اسمه حارثة بن قدامة .. امتلأ غضباً وغيظاً .. لو قُسِّم غضبه على أمةٍ
لكفاهم ..
قال
: نعم أراه .. الجالس هناك ..
قال
: فاذهب والطمه لطمة .. فذاك سيد بني تميم ..
مضى الرجل إليه : واقترب
من حارثة .. فإذا عينا حارثة تلتمع شرراً ..
وقف السفيه عليه .. ورفع
يده ولطمه على وجهه .. فما كادت يده تفارق خده حتى التقط حارثة سيفه .. وقطع يده
..!!
وقديماً قيل : الفائز هو
الذي يضحك في النهاية !!
قناعة ..
التعامل مع المشكلة بأساليب ليست حلاً لها
.. يعذبك .. ولا يحل المشكلة !!