نواصل معكم نشر
كتاب الدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس في ظل السيرة النبوية وقضايا اجتماعية هامة .
الجزء الخامس :
20- الناس كمعادن الأرض
لو تأملت في الناس لوجدت أن لهم طبائع كطبائع الأرض ..
فمنم الرفيق اللين .. ومنهم الصلب الخشن .. ومنهم الكريم كالأرض المنبتة الكريمة .. ومنهم البخيل كالأرض الجدباء التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً ..
إذن الناس أنواع ..
ولو تأملت لوجدت أنك عند تعاملك مع أنواع الأرض تراعي حال الأرض وطبيعتها ..
فطريقة مشيك على الأرض الصلبة .. تختلف عن طريقتك في المشي على الأرض اللينة .. فأنت حذر متأنِّ في الأولى .. بينما أنت مرتاح مطمئن في الثانية ..
وهكذا الناس ..
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم :
· الأحمر
· والأبيض
· والأسود
· وبين ذلك
· والسهل
· والحزن
· والخبيث
· والطيب " ..
فعند تعاملك مع الناس انتبه إلى هذا – وانتبهي - سواء تعاملت مع :
قريب كأب وأم وزوجة وولد ..
أو بعيد كجار وزميل وبائع ..
ولعلك تلاحظ أن طبائع الناس تؤثر فيهم حتى عند اتخاذ قراراتهم ..
وحتى تتيقن ذلك .. اعمل هذه التجربة :
إذا وقعت بينك وبين زوجتك مشكلة .. فاستشر أحد زملائك ممن تعلم أنه صلب خشن .. قل له : زوجتي كثيرة المشاكل معي .. قليلة الاحترام لي .. فأشر عليَّ ..
كأني به سيقول : الحريم ما يصلح معهن إلا العين الحمراء !! دقَّ خشمها ! خل شخصيتك قوية عليها !! كن رجلاً !!
وبالتالي قد تثور أنت ويخرب عليك بيتك بهذه الكلمات ..
أكمل التجربة ..
اذهب إلى صديق آخر تعرف أنه هين لين لطيف .. وقل له ما قلت للأول ..
ستجد حتماً أنه يقول : يا أخي هذه أم عيالك .. وما فيه زواج يخلو من مشاكل .. اصبر عليها .. وحاول أن تتحملها .. وهذه مهما صار فهي زوجتك .. وشريكتك في الحياة ..
فانظر كيف صارت طبيعة الشخص تؤثر في آرائه وقراراته ..
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو عطشان ! أو جوعان ! أو حابس لبول أو غائط ! لأن هذه الأمور قد تغير نفسيته .. وبالتالي قد تؤثر عليه في اتخاذ قراره في الحكم ..
كان في الأمم السابقة رجل سفاح !! سفاح ؟! نعم سفاح .. لم يقتل رجلاً واحداً ولا اثنين .. ولا عشرة .. وإنما قتل تسعاً وتسعين نفساً ..
لا أدري كيف نجا من الناس وانتقامهم .. لعله كان مخيفاً جداً إلى درجة أنه لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه .. أو أنه كان يتخفى في البراري والمغارات .. لا أدري بالضبط .. المهم أنه ارتكب 99 جريمة قتل !!
ثم حدثته نفسه بالتوبة .. فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عابد في صومعته .. لا يكاد يفارق مصلاه .. يمضي وقته ما بين بكاء ودعاء .. هين لين عاطفته جياشة ..
دخل هذا الرجل على العابد .. وقف بين يديه ثم فجعه بقوله : أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً .. فهل لي من توبة ؟
هذا العابد .. أظنه لو قتل نملة من غير قصد لقضى بقية يومه باكياً متأسفاً .. فكيف سيكون جوابه لرجل قتل بيده 99 نفساً ..
انتفض العابد .. ولم يتخيل 99 جثة بين يديه يمثلها هذا الرجل الواقف أمامه ..
صاح العابد : لا .. ليس لك توبة .. ليس لك توبة ..
ولا تعجب أن يصدر هذا الجواب من عابد قليل العلم .. يحكم في الأمور بعاطفته ..
هذا القاتل لما سمع الجواب .. وهو الرجل الصلب الخشن .. غضب واحمرت عيناه .. وتناول سكينه ثم انهال طعناً في جسد العابد حتى مزقه .. ثم خرج ثائراً من الصومعة ..
ومضت الأيام .. فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدله الناس على رجل عالم ..
مضى يمشي حتى دخل على العالم .. فلما وقف بين يديه فإذا به يرى رجلاً رزيناً يزينه وقار العلم والخشية ..
فأقبل القاتل إليه سائلاً بكل جرأة : إني قتلت مائة نفس !! فهل لي من توبة ؟!
فأجابه العالم فوراً : سبحان الله ..!! ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
جواب رائع !! فعلاً من يحول بينه وبين التوبة ؟! فالخالق في السماء لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحول بينك وبين الإنابة إليه والانكسار بين يديه ..
ثم قال العالم الذي كان يتخذ قراراته بناء على العلم والشرع .. لا بناء على طبيعته ومشاعره .. أو قل على عاطفته وأحاسيسه ..
قال العالم : لكنك بأرض سوء ..
عجباً ! كيف علم ؟ عرف ذلك بناء على كبر الجرائم وقلة الـمُدافع له الـمُنكِر عليه .. فعلم أن البلد أصلاً ينتشر فيها القتل والظلم إلى درجة أنه لا أحد ينتصر للمظلوم ..
قال : إنك بأرض سوء .. فاذهب إلى بلد كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم ..
ذهب الرجل يمشي تائباً منيباً .. فمات قبل أن يصل إلى البلد المقصود ..
نزلت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ..
فأما ملائكة الرحمة فقالت : أقبل تائباً منيباً ..
وأما ملائكة العذاب فقالت : لم يعمل خيراً قط ..
فبعث الله إليهم ملكاً في صورة رجل ليحكم بينهم .. فكان الحكم أن يقيسوا ما بين البلدين .. بلد الطاعة وبلد المعصية .. فإلى أيتهما كان أقرب فإنه لها ..
وأوحى الله تعالى إلى بلد الرحمة أن تقاربي .. وإلى بلد المعصية أن تباعدي .. فكان أقرب إلى بلد الطاعة فأخذته ملائكة الرحمة ..
حتى المفتين في المسائل الشرعية تجد مع الأسف أن بعضهم تغلبه عاطفته أحياناً ..
أذكر أن أحد جيراني كان كثير الخلافات مع زوجته ..
اشتد الخلاف يوماً فطلقها تطليقه .. ثم راجعها ..
ثم اشتد أخرى .. فطلقها ثانية .. ثم راجعها ..
وكنت كلما قابلته أحذره وأوصيه .. وأذكره بأبنائه الصغار .. وأهمية اعتبارهم والعناية بهم .. وأكرر عليه :
لم يبق لك إلا طلقة واحدة – الثالثة – فإن أوقعتها لم تحل لك مراجعتها إلا بعد زواجها من آخر وتطليقه لها .. فاتق الله .. ولا تخرب بيتك ..
حتى جاءني يوماً متغير الوجه وقال : يا شيخ تخاصمنا وطلقتها الثالثة !!
وهذا الكلام منه ليس غريباً .. إنما الغريب أنه قال بعدها : ما تعرف لي شيخاً حبيباً يفتيني الآن أراجعها !!
فعجبت منه .. ثم تأملت في الحال فاكتشفت ما تقرر قبل قليل أن كثيراً من الناس تختلف آراؤهم – وربما اختياراتهم الفقهية – تأثراً بعاطفته وطبيعته ..
وبعض الناس تعلم من طبيعته أنه شديد الحب للمال .. فلا تعجب إذا رأيته يذل نفسه لأرباب الأموال .. يهمل أولاده وبيته لأجل جمعه .. يقتر على من يعول .. لا تعجب فهو طماع .. بل إن اتخاذه لقراراته وتبنيه لقناعاته ينبني كثيراً على هذه الطبيعة .. فإذا أردت أن تتعامل معه أو تطلب منه شيئاً فضع في نفسك قبل أن تتكلم أنه محب للمال .. فحاول أن لا تعارض هذه الطبيعة فيه حتى تحصل على ما تريد منه ..
ولأن الأمثلة مفاتيح الفهوم .. خذ مثالاً :
نفرض أنك زرت مستشفى وقابلت مصادفة صديقاً قديماً كان زميلاً لك أيام الجامعة .. فدعوته إلى وليمة غداء في بيتك .. فوافق ..
فذهبت إلى السوق واشتريت حاجات ثم رجعت إلى البيت لتستعد وجعلت تتصل بعدد من زملائكم السابقين تدعوهم لمشاركتكم الوليمة ورؤية صاحبك .. من بين هؤلاء صديق - من البخلاء الذين استولى حب المال على قلوبهم - اتصلت به فرحب وحيَّا .. فلما أخبرته عن الوليمة .. قال : آه .. يا ليتني أستطيع الحضور ورؤية فلان .. لكني مرتبط بشغل هام .. فبلغه سلامي .. ولعلي أراه في وقت آخر ..
فأدركت أنت من معرفتك بطبيعته أنه يخشى أن يجيء .. فيضطر إلى أن يدعو الضيف إلى بيته ويصنع له وليمة تكلفه مبلغاً وقدره .. !! وهو يريد التوفير ..
فقلت له : عموماً هذا الضيف لن يبقى في البلد سيسافر بعد الغداء مباشرة .. فقال : آآآ .. إذن سأؤجل شغلي وآتي لرؤيته !!
وبعض من تخالطهم من الناس يكون اجتماعياً أسرياً .. يحب أسرته .. لا يصبر على فراقهم .. اطلب منه أي شيء إلا أن يبتعد عن أولاده بسفر أو نحوه .. فلا تكلفه ما لا يطيق ..
إلى غير ذلك من طبائع الناس ..
يعجبني بعض الناس الذي يملك فن اصطياد جميع القلوب ..
فإذا سافر مع بخلاء اقتصد حتى لا يحرجهم فأحبوه ..
وإن جالس عاطفيين زاد من نسبة عاطفته فأحبوه ..
وإن مشى مع فكاهيين مرحين ضحك ومزح وجاملهم فأحبوه ..
يلبس لكل حالة لبوسها .. إما نعيمها وإما بؤسها ..
وعُد بذاكرتك قليلاً معي .. وانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبل بالكتائب لفتح مكة ..
كان أبو سفيان قد خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل مكة .. فأسلم ..
في قصة طويلة .. الشاهد منها أنه لما أسلم قال العباس :
يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ..
فقال صلى الله عليه وسلم : " نعم .. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف إلى مكة ..
نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فإذا هو الذي استنفر قريشاً لحربه في بدر ..
واستنفرها لحربه في أحد ..
ثم استنفرها لحربه في الخندق ..
وإذا رجل قائد .. قد طحنته الحرب وطحنها ..
وإذا هو حديث عهد بإسلام ..
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه قوة الإسلام ..
فقال صلى الله عليه وسلم : " يا عباس ..
قال : لبيك يا رسول الله ..
قال : احبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ..
أي أوقفه على طريق الجيش وهو يدخل مكة ..
فخرج العباس بأبي سفيان .. حتى وقف معه بمضيق الوادي .. حيث تتدفق الكتائب كالسيل إلى مكة ..
وجعلت الكتائب تمر عليه براياتها .. فلما مرت الكتيبة الأولى قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال العباس : سليم ..
قال : مالي ولسليم ..!!
ثم مرت به الثانية ..
قال : يا عباس من هؤلاء ؟
قال : مزينة ..
قال : مالي ولمزينة ..!!
حتى نفدت الكتائب .. وهو ما تمر كتيبة إلا سأل العباس عنها ..
فإذا أخبره .. قال : مالي ولبني فلان ..
حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء .. وفيها المهاجرون والأنصار .. قد غطوا أجسادهم بالحديد .. فلا يرى منهم إلا عيونهم ..
فقال : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟
فقال العباس : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار ..
قال : هذا الموت الأحمر .. والله ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ..
ثم قال : والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً !
قال العباس : يا أبا سفيان .. إنها النبوة ..
فقال أبو سفيان : فنعم إذن ..
فلما تجاوزتهم الخيل .. صاح به العباس .. النجاءَ إلى قومك ..
فمضى أبو سفيان سريعاً إلى مكة ..
وجعل يصرخ بأعلى صوته :
يا معشر قريش .. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به .. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..
قالوا : قاتلك الله ! وما تغني عنا دارك ؟
قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن ..
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ..
فلله در نبيه صلى الله عليه وسلم كيف أثر في نفس أبي سفيان بما يصلح له ..
ومما يحسن ههنا .. أن تعرف طبيعة الشخص ونفسيته قبل أن تتكلم معه .. فإن معرفة طبيعته .. وماذا يناسبه .. يفيدك عند التعامل أو الكلام معه ..
في غزوة الحديبية ..
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ..
كانوا ألفاً وأربعمائة ..
ساقوا معهم الهدي وأحرموا بالعمرة ليعلم الناس أنهم إنما خرجوا زائرين لهذا البيت معظمين له ..
وساق صلى الله عليه وسلم معه سبعين من الإبل .. هدياً إلى البيت الحرام ..
وصلوا مكة .. فمنعتهم قريش من دخولها ..
عسكر النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في موضع اسمه الحديبية ..
جعلت قريش ترسل إليه الرجل تلو الرجل للتفاوض معه ..
فبعثوا إليه أولاً مكرز بن حفص ..
كان مكرز رجلاً من قريش .. لكنه لا يلتزم بعهد ولا ميثاق .. بل هو فاجر غادر ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال : هذا رجل غادر ..
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كلمه بما يصلح لمثله ..
وأخبره أنه ما جاء يريد حرباً .. إنما جاء معتمراً .. ولم يكتب معه عهداً لأنه يعلم أنه ليس أهلاً لذلك ..
رجع مكرز إلى قريش فأخبرهم ..
فبعثوا حليس بن علقمة .. سيد الأحابيش ..
وكان الأحابيش قوم من العرب سكنوا مكة تعظيماً للحرم وعناية بالكعبة ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إن هذا من قوم يتألهون أي يتعبدون .. فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ..
فلما رأى الهدي من إبل وغنم .. تسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وحباله مربوطاً مهيئاً ليذبح في الحرم ..
قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله .. قد أضناه الجوع والعطش ..
لما رأى سيد الأحابيش ذلك .. انتفض .. ولم يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى .. وكيف يمنع المعتمرون عن البيت الحرام !!
رجع إلى قريش .. فقال لهم ذلك .. فقالوا له : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك ..
فغضب الحليس .. وقال :
يا معشر قريش .. والله ما على هذا حالفناكم .. ولا على هذا عاهدناكم ..
أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له ؟
والذي نفس الحليس بيده .. لتخلن بين محمد وبين ما جاء له من العمرة .. أو لأنفرن بالأحايش نفرة رجل واحد ..
قالوا : مَهْ .. كُفَّ عنا .. حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ..
ثم أرادوا .. أن يبعثوا رجلاً شريفاً .. فاختاروا عروة بن مسعود الثقفي ..
فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم .. من التعنيف وسوء اللفظ .. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد ..
قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ..
فخرج عروة .. وكان ملكاً في قومه .. له شرف ومكانة .. وله ترفع على الناس ..
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه ثم قال :
يا محمد !! أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟
إنها قريش .. قد خرجت معها العوذ المطافيل .. قد لبسوا جلود النمور ..
يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً .. وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ..
وكان أبو بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. واقفاً ..
فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟
تفاجأ ملك قومه بهذا الجواب .. فلم يتعود على مثله .. لكنه في الحقيقة كان يحتاج إلى جرعة كهذه تخفض ما في رأسه من كبرياء ..
فقال عروة متأثراً : من هذا يا محمد ؟
قال : هذا ابن أبي قحافة ..
قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكفأتك بها .. ولكن هذه بهذه ..
وجعل عروة يلين العبارات بعدها .. ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ..ويلمس لحية النبي .. والمغيرة بن شعبة الثقفي واقف وراء رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قد غطى وجهه الحديد ..
فكان كلما قرب عروة يده من لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قرعها شعبة بطرف السيف ..
ثم يمدها ثانية .. فيقرعها شعبة بطرف السيف ..
فلما مدها الثالثة .. قال شعبة : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك يدك .. أي أقطعها !!
فقال عروة : ويحك ما أفظك وأغلظك ! ومن هذا يا محمد ؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقال ..
هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة الثقفي ..
فقال عروة : أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس !
ثم قام عروة من عند النبي صلى الله عليه وسلم .. وعاد إلى قريش ..
فاسمع ما قال :
قال : يا معشر قريش .. والله لقد رأيت كسرى وقيصر والنجاشي .. والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً ..
فوقع في قلب قريش من الرهبة ما لم يقع من قبل ..
فأرسلت قريش سهيل بن عمرو ..
فمضى يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال : سهل أمركم .. ثم كتبوا بينهم صلح الحديبية ..
هذا جانب من معرفته صلى الله عليه وسلم لأنواع الناس .. واستعمال المفتاح المناسب في التعامل مع كل أحد ..
وهذه الأنواع من طباع الناس تلاحظها حتى في إلقاء الكلمات أو السواليف معهم ..
ويمكنك أن تشاهد دليل ذلك بنفسك ..
حاول
أن تلقي قصة مبكية أمام جمع من الناس .. وانظر إلى أنواع تأثرهم ..
أذكر
أني ألقيت يوماً خطبة ضمنتها قصة مقتل عمر رضي الله عنه.. ولما وصلت إلى كيفية طعن
أبي لؤلؤة المجوسي لعمر رضي الله عنه ..
قلت – بصوت عالٍ - :
وفجأة
خرج أبو لؤلؤة من المحراب على عمر .. ثم طعنه ثلاث طعنات ..
وقعت
الأولى في صدره
والثانية
في بطنه ..
ثم
استجمع قوته وطعن بالخنجر تحت سرته ..
ثم
جرر الخنجر حتى خرجت بعض أمعائه ..
لاحظتُ
وأنا أنظر في الوجوه أن الناس تنوعوا في كيفية تأثرهم ..
فمنهم
من أغمض عينيه فجأة وكأنه يرى الجريمة أمامه ..
ومنهم
من بكى ..
ومنهم
من كان يستمع دون أدنى تأثر وكأنه ينصت إلى حكاية ما قبل النوم !!
قل
مثل ذلك لو عرضت قصة حمزة رضي الله عنه لما وقع شهيداً في معركة أحد .. وكيف شقوا
بطنه فأخرجوا كبده .. وقطعوا أذنيه .. وجدعوا أنفه .. وهو سيد الشهداء وأسد الله
ورسوله ..
وعموماً
..
علمتني
الحياة أن الناس لا يخلون من أن يوجد من بينهم غليظ غبي ..!! لا يحسن ضبط عباراته
.. ولا مجاملة السامعين ..
أذكر
أن رجلاً من هذا الصنف جلس مرة في مجلس عام .. فذكر قصة وقعت له مع أحد البائعين
.. فقال في معرض حديثه : وهذا البائع ضخم جداً كأنه حمار .. ثم قال : يشبه خالد !!
وأشار إلى رجل بجانبه !!
فلا
أدري كيف صار يشبه خالداً .. وهو كأنه حمار !!
وقبل
الختام .. هنا سؤال كبير ..
هل
يمكنك تغيير طباعك لتتناسب مع طباع من تخالطه ..؟
نعم
.. كان عمر رضي الله عنه مشهوراً بين الناس بقوته وصرامته ..
وفي
يوم من الأيام .. اختلف رجل مع زوجته .. وجاء يسأل عمر كيف يتعامل معها ..
فلما
وقف عند بيت عمر وكاد أن يطرق الباب سمع زوجة عمر تصرخ به .. وعمر ساكت .. لم يصرخ
.. لم يضرب ..
فولى
الرجل ظهره للباب وكرّ راجعاً متعجباً ..
أحس
عمر بصوت عند الباب فخرج ونادى الرجل : .. ما خبرك؟
قال
: يا أمير المؤمنين .. جئت أشتكي إليك امرأتي فسمعت امرأتك تصرخ بك !!
فقال
عمر : يا رجل إنها امرأتي .. حليلة فراشي .. وصانعة طعامي .. وغاسلة ثيابي .. أفلا
أصبر منها على بعض السوء ..
وعموماً
: بعض الناس لا علاج له فلا بد من التكيف معه ..
يشتكي
إليَّ بعض الناس من شدة غضب أبيه .. أو بخل زوجته .. أو ..
فأَعْرضُ
عليه بعض طرق العلاج فيفيدني أنه جربها كلها ولم تنفع ..
فما
الحل ..؟! الحل أن يصبر على أخلاقهم .. ويغمرَ سيء أخلاقهم في بحر حَسَنِها ..
ويتكيف مع واقعه قدر المستطاع ..
فبعض
المشاكل ليس لها حل ..
نتيجة
..
معرفتك
بطبيعة الشخص الذي تخالطه تجعلك قادراً على كسب محبته ..
21-
أستاذ الرياضيات
..
كان
يدرس مادة الرياضيات لطلاب المرحلة الثانوية .. السنة الأخيرة .. كان يلاحظ على
عدد منهم الإهمال وعدم المتابعة .. فأراد أن يؤدبهم ..
دخل
عليهم يوماً ..
وأول
ما استقر على كرسيه فاجأهم بقوله : كل واحد يضع كتابه جانباً ويخرج ورقة وقلماً !!
قالوا
: لماذا يا أستاذ ؟!
قال
: اختبار .. اختبار مفاجئ ..
بدأ
الطلاب بنوع من التذمر ينفذون ما طلب .. ويتهامسون باستياء ..
كان
من بينهم طالب كبير الجسم صغير العقل .. مشاكس كثير المشاكل سريع الغضب متهور ..
صاح بأستاذه :
يا
أستاذ .. لا نريد أن نختبر .. نحن بالكاد نجيب ونحن مذاكرون .. بالله كيف إذا كنا
ما ذاكرنا ؟!!
قالها
الطالب بنبرة حادة ..
ثار
المدرس وهاج .. وقال : ما هو على كيفك .. تختبر غصباً عنك .. فاهم ؟! إذا ما هو
عاجبك اطلع بَرّا !!!
ثار
الطالب .. وصاح : أنت اللي تطلع بَرّا ..
توجه
المدرس إلى الطالب وهو يصيح ويردد : يا قليل الأدب .. يا عديم التربية .. يا ..
ويقترب أكثر وأكثر ..
نهض
الطالب واقفاً .. ثم ..
كان
ما كان مما لست أذكره فظن شراً، ولا
تسأل عن الخبر!!
وصل الأمر إلى إدارة المدرسة .. عوقب
الطالب بخصم درجتين وكتابة تعهد بالتزام الأدب ..
أما
المدرس فصار حديث القاصي والداني .. وأصبح مضرب الأمثال .. ومثار أحاديث الطلاب في
كل المدرسة .. يمشي في ممراتها ويسمع التعليقات والهمسات .. حتى انتقل بعدها إلى
مدرسة أخرى ..
بينما
مدرس آخر وقع له الموقف نفسه لكنه أحسن التصرف معه ..
دخل
على طلابه .. وفاجأهم بقوله : أخرج ورقة وقلماً .. اختبار مفاجئ ..
وكان
من بينهم طالب كذاك الطالب .. صاح : يا أستاذ !! ما هو على كيفك ..
كان
المدرس جبلاً يحس بثقل الرجل التي يحاول أن يصعد عليه !!.. يفهم أن العصبي لا يقابل
بعصبية ..
ابتسم
ونظر إلى الطالب وقال : يعني يا خالد ما تريد أن تختبر ؟
فقال
- صارخاً - : لا ..
فقال
المدرس بكل هدوء : خلاص .. اللي ما يريد يختبر نتعامل معه بالنظام ..
اكتبوا
يا شباب : السؤال الأول : أوجد نتيجة هذه المعادلة : س + ص = ع + 15 .. ومضى يسوق
الأسئلة ..
لم
يصبر الطالب المشاكس وقال : أقولك ما أريد أن أختبر .. نظر إليه المدرس وابتسم
بهدوووء .. وقال : وهل ألزمتك أن تختبر .. أنت رجل ومسئول عن تصرفاتك ..
لم
يجد الطالب ما يثير غضبه أكثر .. فهدأ وأخرج ورقة وقلماً .. وبدأ يكتب الأسئلة مع
زملائه .. ثم بعدها تمت محاسبته على سوء أدبه عن طريق إدارة المدرسة ..
تذكرت
هذه المفارقة في القدرة على التعامل مع المواقف وأنا أتأمل في مهارات الناس على
إذكاء النيران وإخمادها ..
فالتعامل
مع العصبي بعصبية يؤدي إلى تفجر الموقف واحتدام الخلاف ..
فمن
الأمور المسلمة عند العقلاء .. أن من يلاقي النار بالنار يزدها شرراً واحتداماً ..
وفي
الجهة المقابلة تجد أحياناً أن من يقابل البرود – دائماً – ببرود .. لا تستقيم له
الأمور ..
فليكن
رابطك مع الناس شعرة معاوية ..
فقد
سئل معاوية رضي الله عنه كيف استطعت أن
تحكم الناس أميراً عشرين سنة .. ثم تحكمهم خليفة عشرين سنة؟
فقال
: جعلت بيني وبينهم شعرة .. أحد طرفيها في يدي والآخر في أيديهم .. فإذا شدوها من
جهتهم أرخيت من جهتي حتى لا تنقطع .. وإذا أرخوا من جهتهم شددت من جهتي ..
صدق
رضي الله عنه .. ما أحكمه !!
أظن
من المسلَّمات في حياتنا أنه لا يمكن أن يهنأ بالعيش زوجان كلاهما عصبي غضوب ..
كما لا يمكن أن تطول علاقة صاحبين كلاهما كذلك ..
أذكر
أني ألقيت محاضرة في أحدى السجون .. وكان قدري أن تكون المحاضرة في العنبر الخاص
بمرتكبي جرائم القتل .. لما انتهيت من محاضرتي .. تفرقوا إلى مهاجعهم وأقبل إلي
أحدهم شاكراً .. وعرفني بنفسه وأنه المسئول عن الأنشطة الثقافية في العنبر ..
سألته
عن سبب ارتكاب جريمة القتل عند أكثر هؤلاء ..
فقال
: الغضب .. الغضب .. والله يا شيخ إن بعضهم قتل لأجل حفنة ريالات تخاصم عليها مع
عامل في بقالة أو محطة وقود ..
تذكرت
عندها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصُّرَعَة .. إنما
الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ..
نعم
ليس البطل هو قوي البدن الذي ما يصارع أحداً إلا غلبه .. لا .. فلو كان هذا هو مقياس البطولة لأصبحت
الحيوانات والوحوش أفخر من الآدميين ..
إنما
البطل هو العاقل الذي يعرف كيف يتعامل مع المواقف بمهارة .. يتعامل مع زوجته ..
أولاده .. مديره .. زملائه .. دون أن يفقدهم ..
وفي
الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان..
وأمر
صلى الله عليه وسلم بتدريب النفس على الحلم فقال : "إنما الحلم بالتحلم"
..
نعم
بالتحلم .. يعني عند كظم الغضب في المرة الأولى ستتعب 100% ولكن في الثانية ستتعب
90% ثم في الثالثة إذا كظمت غضبك ستتعب 80% وهكذا حتى تتدرب ويصبح الحلم والهدوء
عندك طبيعة ..
ومن
طرائف قصص الغضب أني ذهبت يوماً لمدينة أملج ( 300ك جنوب جدة ) لإلقاء محاضرة ..
كان
من بين الحاضرين شاب سريع الغضب ثائر الأعصاب جداً ..
هذا
الشاب سافر مرة بسيارته ولم يكن مستعجلاً فكان يمشي ببطء .. كان وراءه سيارة مسرعة
تريده أن يفسح لها الطريق .. وهو يزداد بطئاً ويشير لهم بيده أن خففوا السرعة ..
ضاق
صاحب السيارة الأخرى بصاحبنا ذرعاً .. وتعداه بسرعة وانحرف عليه بسيارته مؤدباً ..
ثم مضى .. ولم يصب أحد منهما بضرر ..
ثارت
أعصاب صاحبنا – وهي تثور على أقل من ذلك بكثيييير – فزاد سرعة سيارته .. وأخذ يصرخ
ويزمجر .. ويشير لهم بأضواء السيارة مراراً حتى توقفوا .. فألقى غترته جانباً ..
وتناول قطعة حديد - هي في الأصل مفك لفتح براغي العجلات عند الحاجة - .. ونزل من
السيارة متوجهاً إليهم .. والغضب بادٍ عليه وقطعة الحديد في يده ..
فإذا
بالسيارة المقابلة ينزل منها ثلاثة شباب قد ضاقت ملابسهم بعضلاتهم .. وتباعدت
أيديهم عن جنوبهم من عرض أكتافهم ..
أقبلوا
يركضون بانفعال إلى صاحبنا .. وقد رأوه تهيأ للقتال !!
فلما
رآهم انتفض .. وغص بريقه .. وهم ينظرون إليه وإلى ما في يده ..
فلما
لاحظ أنهم يحدون النظر إلى قطعة الحديد .. رفعها برفق وقال :
عفواً
.. أردت أن أنبهكم إلى أن هذه سقطت منكم .. !!
فتناولها
أحدهم بانفعال .. وولوا إلى سيارتهم .. وهو يشير بيده إليهم مودعاً ..!!
معادلة
..
عصبي
+ عصبي = انفجار
22- ماذا تستفيد من
هذه المهارة ؟
كل
باب له مفتاح .. والمفتاح المناسب لفتح قلوب الناس هو معرفة طبائعهم ..
حل
مشاكل الناس .. الإصلاح بينهم .. الاستفادة منهم .. اتقاء شرورهم ..
كل
ذلك تصبح فيه بارعاً إذا عرفت طبائعهم ..
افرض
أن شاباً وقع بينه وبين أبيه خلاف .. اشتد الخلاف حتى طرده أبوه من البيت .. حاول
الابن العودة مراراً لكن الأب كان عنيداً مصراً ..
دخلت
للإصلاح بينهما .. حدثت الأب بالنصوص الشرعية .. خوفته من إثم القطيعة ..
لم
يلتفت إليك .. كان مشحوناً غاضباً جداً ..
أردت
أن تستعمل أساليب أخرى للإصلاح ..
عرفت
من طبيعة هذا الأب أنه عاطفي جداً .. جئت إليه وقلت :
يا
فلان .. أما ترحم ولدك .. يفترش الأرض .. ويلتحف السماء ..!!
أنت
تأكل وتشرب .. والمسكين يبيت طاوياً ويصبح جائعاً ..
أما
تذكره إذا رفعت كسرة الخبز إلى فمك .. أما تذكر مشيه في حر الشمس ..
أما
تذكر لما كنت تحمله صغيراً .. وتضمه إلى صدرك .. وتشمه وتقبله ..
أيرضيك
أن يستجدي الناس وأبوه حي!! ..
تجد
أن عاطفة الأب تهيج بهذا لكلام .. ويقترب أكثر من نقطة الالتقاء ..
وإن
كان أبوه بخيلاً محباً للمال .. قلت له :
يا
فلان أنتبه لا تورط نفسك .. أرجع الولد تحت نظرك وتصرفك .. أخشى أن يسرق أو يعتدي
.. فتلزمك المحكمة بسداد ما أخذ .. وإصلاح ما خرب .. فأنت أبوه على كل حال ..
انتبه ..
تجد
أن الأب البخيل سيبدأ يعيد موازينه من جديد ..
وإن
كان كلامك موجهاً إلى الابن .. وكان جشعاً محباً للمال ..
قلت
له : يا فلان .. لن ينفعك الا أبوك .. غداً ستحتاج أن تتزوج .. من يسدد مهرك ؟
لو
تعطلت سيارتك من يصلحها ؟
لو
مرضت .. من سيحاسب المستشفى ؟
إخوانك
يستفيدون كما شاءوا .. مصروف .. هدايا .. وأنت جالس هكذا ..
ما
يضرك أن تصلح ذلك كله بقبلة تطبعها على جبين أبيك .. أو كلمة أسف تهمس بها في أذنه
..
وكذلك
لو دخلت للإصلاح بين زوجة وزوجها .. فعلت مثل ذلك .. وفتحت باب كل واحد منهما
بالمفتاح المناسب ..
ومثله
لو أردت إجازة من مديرك في العمل ..
وعرفت
أنه لا يلتفت إلى العواطف ولا الأمور الاجتماعية .. وإنما عمل ( وبس ! ) ..
فقلت
له : أحتاج إلى إجازة ثلاثة أيام أجدد فيها نشاطي .. وأستعيد حيويتي .. أشعر أن
إنتاجاتي مع ضغط العمل تنحدر تدريجياً .. أعطني فرصة لإراحة ( رأسي ) فقط ثلاثة
أيام .. لأعود أنشط وأقدر ..
وإن
كان اجتماعياً .. تلحظ من خلال تعاملاته .. أنه حريص على الأسرة والعائلة .. قلت
له :
أريد
إجازة لأرى والديَّ .. أولادي .. أشعر أنهم في واد وأنا في واد آخر .. إلى غير ذلك
..
أتقن
هذه المهارة .. وستسمع الناس غداً يقولون : ما رأينا أبرع فلاناً في القدرة على
الإقناع ..!!
نتيجة
..
كل
إنسان له مفتاح .. ومعرفة طبيعة الإنسان تدلّك على معرفة مفتاحه المناسب ..
23- مراعاة النفسيات
..
تتقلب
أمزجة الناس في حياتهم بين حزن وفرح .. وصحة ومرض .. وغنى وفقر .. واستقرار
واضطراب ..
وبالتالي
يتنوع تقبلهم لبعض الأنواع من التعاملات .. أو ردهم لها بحسب حالتهم الشعورية وقت
التعامل ..
فقد
يقبل منك النكتة والطرفة ويتقبل المزاح في وقت استقراره وراحة باله .. لكنه لا
يتقبل ذلك في وقت حزنه ..
فمن
غير المناسب أن تطلق ضحكة مدوية في عزاء ..!! لكنها تحتمل منك في نزهة برية ..
وهذا
أمر مقرر عند جميع العقلاء وليس هو المقصود بحديثي هنا ..
إنما
المقصود هو مراعاة النفسيات والمشاعر الشخصية عند الحديث مع الناس أو التصرف معهم
..
افرض
أن امرأة طلقها زوجها وليس لها أب ولا أم .. قد ماتا .. وجعلت تجمع أغراضها لتعيش
مع أخيها وزوجته ..
فبينما
هي كذلك إذ دخلت عليها جارتها في الضحى زائرة .. فرحبت المطلقة بها .. ووضعت لها
القهوة والشاي .. فجعلت الزائرة تبحث عن أحاديث لتؤانسها .. فسألتها المطلقة :
بالأمس
رأيتكم خارجين من المنزل ..
فقالت
الجارة : إي والله .. أبو فلان أصر علي أن نتعشى خارج البيت فذهبت معه .. ثم مر
السوق واشترى لي فستاناً لعرس أختي .. ثم وقف عند محل ذهب ونزل واشترى لي سواراً
ألبسه في العرس ..
ولما
رجعنا إلى البيت رأى الأولاد في ملل فوعدهم آخر الأسبوع أن يسافر بهم ..
والمطلقة
المسكينة تستمع إلى ذلك وتتخيل حالها بعد قليل في بيت زوجة أخيها !!
السؤال
: هل يناسب إثارة هذا النوع من الأحاديث مع امرأة فشلت في مشروع الزواج ؟!!
هل
تظن أن هذه المطلقة ستزداد محبة لهذه الجارة ؟.. ورغبة في مجالستها دائماً ؟..
وفرحاً بزيارتها لها ؟..
نتفق
جميعاً على جواب واحد نصرخ به قائلين : لاااااا ..
بل
سيمتلئ قلبها حقداً وقهراً ..
إذن
ما الحل ؟ هل تكذب عليها ؟
لا
.. ولكن تتكلم باختصار .. كأن تقول : والله كان عندنا بعض الأشغال قضيناها .. ثم
تصرف الكلام إلى موضوع آخر تصبرها به على كربتها ..
أو
افرض .. أن صديقين اختبرا نهاية المرحلة الثانوية .. فنجح أحدهما وتخرج بتفوق ..
والثاني
رسب في عدد من المواد .. أو تخرج بنسبة ضعيفة لا تؤهله للقبول في شيء من الجامعات
..
فهل
تَرَى من المناسب عندما يزور المتفوقُ صاحبه أن يسهب في الحديث حول الجامعات التي
تم قبوله فيها .. والميزات التي ستمنح له ..؟
قطعاً
جوابنا جميعاً : لا ..
إذن
ما الحل ؟
الحل
أن يذكر له عموميات يخفف بها عنه .. كأن يشتكي من كثرة الزحام في الجامعات .. وقلة
القبول .. وخوف كثير من المتقدمين إليها من عدم القبول .. حتى يخفف عن صاحبه مصابه
.. فيرغب عند ذلك في مجالسته أكثر .. ويحبه ويأنس بقربه .. ويشعر أنه قريب من قلبه
..
وقل
مثل ذلك لو التقى شابان أحدهما أبوه كريم يغدق عليه الأموال ..
والآخر
أبوه بخيل لا يكاد يعطيه ما يكفيه ..
فمن
غير المناسب أن يتحدث ابن الكريم بإغداق أبيه عليه .. وكثرة المال لديه .. و ..
لأن
هذا النوع من الكلام يضيق به صدر صديقه .. ويذكره بمأساته مع أبيه .. ويستثقل
الجلوس مع هذا الصديق ويشعر ببعده عنه في همه ..
لذلك
نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراعاة مشاعر الآخرين ونفسياتهم .. فقال : "لا
تطيلوا النظر إلى المجذوم" .. والمجذوم هو المصاب بمرض ظاهر في جلده قد جعله
مشوهاً في منظره .. فمن غير المناسب أنه إذا مر بقوم أن يطيلوا النظر إلى جلده ..
لأن هذا يذكره بمصيبته فيحزن ..
وفي
موقف غاية في المراعاة واللطف يتعامل صلى الله عليه وسلم مع والد أبي بكر رضي الله
عنه ..
فإنه
صل لله عليه وسلم لما أقبل بجيوش المسلمين إلى مكة لفتحها ..
قال
أبو قحافة أبو أبي بكر رضي الله عنه .. وكان شيخاً كبيراً .. أعمى .. قال لابنة له
من أصغر ولده :
أي
بنية .. اظهري بي على جبل أبي قبيس لأنظر صدق ما يقولون .. هل جاء محمد ؟..
فأشرفت
به ابنته فوق الجبل .. فقال : أي بنية ماذا ترين ؟
قالت
: أرى سواداً مجتمعاً مقبلاً ..
قال
: تلك الخيل ..
قالت
: وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلاً ومدبراً ..
قال
: أي بنية ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ..
ثم
قالت : قد والله يا أبتِ انتشر السواد ..
فقال
: قد والله إذاً دفعت الخيل ووصلت مكة .. فأسرعي بي إلى بيتي .. فإنهم يقولون من
دخل داره فهو آمن ..
فانحطت
الفتاة به مسرعة من الجبل ..
فتلقته
خيل المسلمين .. قبل أن يصل إلى بيته ..
فأقبل
أبو بكر إليه ..
فاحتفى
به مرحباً ..
ثم
أخذ بيده يقوده .. حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ..
فلما
رآه رسول الله .. فإذا شيخ كبير .. قد ضعف
جسمه .. ورق عظمه .. واقتربت منيته ..
وإذا
أبو بكر رضي الله عنه .. ينظر إلى أبيه .. وقد فارقه منذ سنين .. وانشغل عنه بخدمة
هذا الدين ..
التفت
إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال مطيباً لنفسه .. ومبيناً قدره الرفيع عنده :
هلا
تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟!
كان
أبو بكر يعلم أنهم في حرب .. قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأن وقته
أضيق .. وأشعاله أكثر من أن يتفرغ للذهاب لبيت شيخ يدعوه للإسلام ..
فقال
أبو بكر شاكراً : يا رسول الله .. هو أحق أن يمشي إليك .. من أن تمشي أنت إليه ..
فأجلس
النبي عليه الصلاة والسلام .. أبا قحافة بين يديه .. بكل لطف وحنان ..
ثم
مسح على صدره ..
ثم
قال : أسلم ..
فأشرق
وجه أبي قحافة .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
..
انتفض
أبو بكر منتشياً مسروراً .. لم تسعه الدنيا فرحاً ..
تأمل
النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الشيخ .. فإذا الشيب يكسوه بياضاً .. فقال صلى
الله عليه وسلم : غيروا هذا من شعره .. ولا تقربوه سواداً ..
نعم
كان يراعي النفسيات في تعامله ..
بل
إنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة قسم جيشه إلى كتائب .. وأعطى راية إحدى
الكتائب .. إلى الصحابي البطل سعد بن عبادة رضي الله عنه ..
كانت
الراية مفخرة لمن يحملها .. ليس له فقط بل له ولقومه ..
جعل
سعد ينظر إلى مكة وسكانها .. فإذا هم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
.. وضيقوا عليه .. وصدوا عنه الناس ..
وإذا
هم الذين قتلوا سمية وياسر .. وعذبوا بلالاً وخباباً ..
كانوا
يستحقون التأديب فعلاً ..
هز
سعد الرايية .. وهو يقول : اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة ..
سمعته
قريش فشق ذلك عليهم .. وكبر في أنفسهم .. وخافوا أن يفنيهم بقتالهم ..
فعارضت
امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير .. فشكت إليه خوفهم من سعد .. وقالت
:
يا
نبي الهدى إليك لجائيُّ قريش ولات حين لجاء
حين
ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماء
إن
سعداً يريد قاسمة الظهـر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي
لو يستطيع من الغيـظ رمانا بالنسر والعواء
فانهينه
إنه الأسد الأسـود والليث والغٌ في الدماء
فلئن
أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
لتكونن
بالبطاح قريش بقعةَ القاع في أكف الإماء
إنه
مصلت يريد لها القتل صموت كالحية الصماء
فلما
سمع رسول الله صلى اللله عليه وسلم .. هذا الشعر .. دخله رحمة ورأفة بهم ..
وأحب
ألا يخيبها إذ رغبت إليه ..
وأحب
ألا يغضب سعداً بأخذ الراية منه بعد أن شرفه بها ..
فأمر
سعداً فناول الراية لابنه قيس بن سعد .. فدخل بها مكة.. وأبوه سعد يمشي بجانبه ..
فرضيت
المرأة وقريش لما رأت يد سعد خالية من الراية ..
ولم
يغضب سعد لأنه بقي قائداً لكنه أريح من عناء حمل الراية وحملها عنه ابنه ..
فما
أجمل أن نصيد عدة عصافير بحجر واحد ..
حاول
أن لا تفقد أحداً .. كن ناجحاً واكسب الجميع .. وإن تعارضت مطالبهم ..
اتفاق
..
نحن
نتعامل مع القلوب .. لا مع الأبدان ..