نواصل معكم زوارنا الكرام نشر كتاب
اِسْـتـمـتِـعْ بـِحـَيـات
للدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء السادس عشر:
يقولون
: إن الناصح كالجلاد ..
وبقدر
مهارة الجلاد في الجلد .. يبقى الألم ..
أقول
: مهارة الجلد .. لا قوة الجلد !!
فالجلاد
العنيف الذي يضرب بقوة .. يتألم المضروب وقت وقوع السياط .. ثم ما يلبث حتى ينساها
..
أما
الجلاد الأستاذ في صنعته ..فقد لا يضرب بقوة .. لكنه يعلم أن يوقع السوط ..
كذلك
الناصح .. ليست العبرة بكثرة الكلام .. ولا طول النصيحة ..
وإنما
بأسلوب الناصح ..
فاختصر
قدر المستطاع .. إذا أردت أن تنصحه فلا تلق عليه محاضرة ..!!
خاصة
إذا كان الأمر متفقاً عليه .. كمن تنصحه عن الغضب .. أو شرب الخمر .. أو ترك
الصلاة .. أو عقوق الوالدين .. الخ ..
تأملت
النصائح النبوية الشخصية المباشرة .. فوجدتها لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد ..
أو سطرين ..
اسمع
: يا علي .. لا تتبع النظرة النظرة .. فإن لك الأولى وليست لك الثانية ..
انتهى
.. نصيحة باختصار ..
يا
عبد الله بن عمر .. كن في الدنيا كأنك غريب .. أو عابر سبيل ..
انتهى
..
يا
معاذ .. والله إني أحبك .. فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك
.. وشكرك .. وحسن عبادتك ..
يا
عمر .. إنك رجل قوي .. فلا تزاحمن عند الحجر ..
وكذلك
كان العقلاء بعده ..
لقي
أبو هريرة رضي الله عنه الفرزدق الشاعر فقال :
يا
ابن أخي إني أرى قدميك صغيرتين .. ولن تعدم لهما موضعا في الجنة ..
يعني
فاعمل لها .. ودع عنك قذف لمحصنات في شعرك ..
وعمر
رضي الله عنه .. كان على فراش الموت .. فجعلوا الناس يثنون عليه ..
وجاء
شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم .. وقدم في الإسلام ما قد علمت .. ثم وَلِيت فعدلت .. ثم شهادة ..
فقال
عمر : وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ..
فلما
أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. مسبل ..
فأراد
عمر رضي الله عنه أن يقدم النصيحة للشاب ..
فقال
: ردوا علي الغلام ..
فلما
وقف الشاب بين يديه .. قال : يا بن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى
لربك ..
انتهى
.. باختصار .. الرسالة وصلت ..
واترك
الجدال قدر المستطاع ..
خاصة
إذا شعرت أن الذي أمامك يكابر .. فالمقصود إيصال النصيحة إليه ..
وقد
ذم الله الجدال : ( ما ضربوه لك إلا جدلاً ) ..
وقال
صلى الله عليه وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه .. إلا أوتوا الجدل ..
وقال
: أنا زعيم لبيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال وإن كان محقاً ..
أحياناً
يقتنع الشخص بالفكرة .. لكن أكثر النفوس فيها أنفة وكبر ..
(
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) ..
فالغاية
عندك أنت أصلاً أن يعرف الخطأ ليتجنبه في المرة القادمة .. وليس الغاية أن تنتصر
أنت عليه .. فلستما في حلبة مصارعة ..
دخل
النبي صلى الله عليه وسلم على علي وفاطمة رضي الله عليهما .. ليلاً ..
فقال
لهما : ألا تصليان .. أي ألا تقوما الليل ..
فقال
علي : أنفسنا بيد الله .. متى شاء أن يبعثنا .. بعثنا ..
فولاهما
النبي صلى الله عليه وسلم ظهره .. ومضى وهو يضرب بيده على فخذه ويقول : وكان
الإنسان أكثر شيء جدلاً ..
وأحياناً
قد يذكر المنصوح .. كلاماً يعتذر به .. وهو ليس عذراً مقنعاً لكنه يقوله ..ليحفظ
ماء وجهه ..
فكن
سمحاً ..
ولا
تغلق عليه الأبواب بل أبقها مفتوحة أمامه وأنت تنصح ..
وحتى
لو تكلم بكلام خاطئ .. فيمكن أن تعالج خطأه من حيث لا يشعر ..
كأن
تقول : صحيح .. وأنا معك أن الإنسان يفقد أعصابه غصباً عنه ..
وأثن
عليه .. ثم قل : ولكن .. ثم انسف كلامه إن كان خاطئاً ..
وجهة نظر ..
نبه على الخطأ .. ولا تلق محاضرة ..
57- لا تبال بكلام الخلق ..
أعجبتني
عبارة رددها ابني عبد الرحمن يوماً .. وأظنه في ذلك السن لم يكن يفقه معناها..
كان
يقول : طنِّش تعِش تَـنْـتَـعِش ..!!
تأملت
في هذه العبارة وأنا ألاحظ حولي انتقادات الناس .. وآراءهم .. وأحاديثهم ..
فوجدت
أن الناس في كلامهم وذمهم لنا يتنوعون ..
فيهم
الناصح الصادق الذي لا يتقن فن النصيحة .. وبالتالي يحزنك بأسلوب نصحه أكثر مما
يفرحك ..
وفيهم
الحاسد .. الذي يقصد حزنك وهمك ..
وفيهم
قليل الخبرة .. الذي يهدي بما لا يدري .. ولو سكت لكان خيراً له ..
وفيهم
من طبيعته الانتقاد أصلاً .. فهو ينظر للحياة بنظارة سوداء ..
وقديماً
قيل : لو اتحدت الأذواق لبارت السلع ..
ذكروا
أن جحا ركب على حمار .. وولده يمشي بجانبه ..
فمروا
بناس .. فقال الناس : انظروا لهذا الأب الغليظ يركب مرتاحاً .. ويدع ولده يمشي في
الشمس ..
سمعهم
جحا .. فأوقف الحمار .. ونزل .. وأركب ولده ..
ثم
مشيا .. وجحا يشعر بنوع من الزهو ..
فمرا
بقوم آخرين .. فقال أحدهم : انظروا إلى هذا الابن العاق .. يركب ويدع أباه يمشي في
الشمس ..
سمعهم
جحا ..
فأوقف
الحمار .. ثم ركب مع ولده .. ليتقوا كلام الناس وانتقاداتهم ..
فمرا
بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين الغليظين .. لا يرحمان الحيوان ..
فنزل
جحا .. وقال : يا ولدي .. انزل ..
فنزل
الولد وجعل يمشي بجانب أبيه .. والحمار ليس فوقه أحد ..
فمرا
بقوم .. فقالوا : انظروا إلى هذين السفيهين .. يمشيان والحمار فارغ .. وهل خلق
الحمار إلا ليُركب ..
فصرخ
جحا وجرّ ولده معه .. ودخلا تحت الحمار .. وحملاه ..!!
ولو
رأيت جحا وقتها لقلت له : يا حبيب القلب .. افعل ما تشاء .. ولا تبال بكلام الخلق
.. فرضا الناس غاية لا تدرك ..
ومن
الذي ينجو من الناس سالماً
ولو
غاب عنهم بين خافيتي نسر ..
بعض
الناس .. لا يفكر في رأيه قبل أن يطرحه ..
يأتيك
بعدما تتزوج .. ويقول .. ليش تخطب فلانة؟
وكأني
بك .. تتمنى أن تصرخ في وجهه وتقول : يا أخي تزوجت .. خلاص .. انتهى الموضوع .. ما
أحد طلب منك اقتراحات ..
أو
يأتيك وقد بعت سيارتك .. فيقول .. ليتك أخبرتني .. فلان كان سيعطيك أكثر ..
يا
أخي .. بس !! الرجل باع سيارته .. خلاص وانتهى .. لا تشغله بالالتفات وراءه !!
وعموماً
..
ليس
يخلو المرء من ضد ولو*.*طلب العزلة في رأس جبل ..!!
فلا
تعذب نفسك ..
تجربة ..
قال أحد السلف : من جعل دينه عرضة للخصومات
.. أكثر التنقل !!
58- ابتسم .. ثم ابتسم .. ثم ابتسـ .. ثم أبتـ ..
أعرفه
منذ سنين .. فهو أحد زملائي في عملي .. على كل حال ..
لكن
هل تصدق أنني إلى الآن لا أدري هل نبتت له أسنان أم لا !!
دائم
التجهم .. والعبوس .. وكأنه إذا ابتسم نقص عمره .. أو قلَّ ماله !!
قال
جرير بن عبد الله البجلي : ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي
..
الابتسامة
أنواع .. ومراتب ..
فمنها
البشاشة الدائمة .. أن يكون وجهك صبوحاً مبتهجاً دائماً ..
فلو
كنت مدرساً ودخلت الفصل على طلابك .. فالقهم بوجه بشوش ..
ركبت
طائرة .. ومشيت في الممر والناس ينظرون إليك .. كن بشوشاً ..
دخلت
بقالة .. أو محطة وقود .. مددت له الحساب .. ابتسم ..
في
المجلس .. ودخل شخص وسلم بصوت عال .. ومر بنظره على الجالسين .. ابتسم ..
دخلت
على مجموعة .. وصافحتهم .. ابتسم ..
وعموماً
: الابتسامة لها من التأثير الكبير في امتصاص الغضب والشك والتردد .. ما لا
يشاركها غيرها ..
البطل
هو الذي يستطيع التغلب على عواطفه .. والتبسم ..
كان
أنس بن مالك رضي الله عنه يمشي مع النبي صلى الله عليه
وسلم يوماً.. والنبي صلى الله عليه وسلم عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية
..
فلحقهما
أعرابي ..
أقبل
هذا الأعرابي يجري وراء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يلحق به .. حتى إذا
اقترب منه ..
جبذه
بردائه جبذة شديدة .. فتحرك الرداء بعنف على رقبة النبي صلى الله عليه
وسلم ..
قال
أنس : حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قد أثرت
بها حاشية البُرد من شدة جبذته ..
فماذا
يريد هذا الرجل؟! لعل بيته يحترق وأقبل يريد معونة .. أو أحاطت بهم غارة من المشركين
..
اسمع
ماذا يريد .. قال : يا محمد .. -لاحظ لم يقل : يا رسول الله - ..
قال
: يا محمد .. مُر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت رسول الله صلى الله عليه
وسلم .. ثم ضحك .. ثم أمر له بعطاء ..
نعم
.. كان صلى الله عليه وسلم بطلاً لا تستفزه مثل هذه التصرفات .. ولا
يعاقب أو تثور أعصابه على التافهات ..
كان
واسع البطان .. قوياً يضبط أعصابه .. دائم الابتسامة حتى في أحلك الظروف .. يفكر
في عواقب الأمور قبل أن يفعلها ..
وماذا
يفيد لو أنه صرخ بالرجل أو طرده!
هل
سيشفى جرح عنقه! أو يصلح أدب الرجل! كلا ..
إذن
ليس مثل الصبر والتحمل ..
نعم
بعض الأمور نثور لها ونغضب .. وعلاجها شيء آخر تماماً ..
وصدق
صلى الله عليه وسلم لما قال : "ليس الشديد بالصرعة .. إنما الشديد الذي يملك
نفسه عند الغضب" ..
كان
النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .. يجذب الناس بالتبسم والبشاشة ..
خرجوا
إلى غزوة خيبر .. وفي أثناء القتال ..
وقع
من حصن اليهود جراب فيه شحم .. قربة كاملة مملوءة سمناً ..
حمله
عبد الله بن مغفل رضي الله عنه على عاتقه فرحاً ومضى به إلى رحله وأصحابه ..
فلقيه
الرجل المسئول عن جمع الغنائم وترتيبها .. فجذب الجراب إليه .. وقال :
هاتِ
هذا نقسمه بين المسلمين ..
فتعلق
به عبد الله : لا والله .. لا أعطيكه .. أنا أصبته ..
قال
: بلى .. وجعلا يتجاذبا الجراب ..
فمر
بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرآهما .. وهما يتجاذبان الجراب ..
فتبسم
صلى الله عليه وسلم ضاحكاً .. ثم قال لصاحب المغانم :
لا
أبالك .. خل بينه وبينه ..
فتركه
.. فانطلق به عبد الله إلى رحله وأصحابه .. فأكلوه ..
وأخيراً
.. تبسمك في وجه أخيك صدقة ..
قال لي :
فلان سحرني بأخلاقه .. حتى تعلقت به نفسي
.. قلت : لم؟! قال : دائماً بشوش .. وما رآني إلا تبسم !!
59- الخطوط الحمر ..
كان
من طلابي في الجامعة..
كان
واسع الثقافة .. حريصاً على تكوين علاقات مع الناس .. لكنه كان ثقيل الدم عليهم ..
جاءني
يوماً .. وقال :
يا
دكتور .. زملائي يغضبون مني دائماً .. لا يتحملون مزحي ..
قلت
في نفسي : أنا لا أحتملك ساكتاً .. فكيف أحتملك متكلماً..؟! خاصة إذا كنت تستخف
دمك وتمزح ..!
سألته
: لماذا لا يحتملون مزحك؟! أعطني مثالاً ..
قال
: عطس أحدهم فقلت : الله يلعنك .. ثم سكتُّ .. فلما غضب .. أكملت قائلاً : يا
إبليس .. ويرحمك يا فلان ..!!
مسكين
كان يظن نفسه بذلك .. خفيف الدم!!
الناس
مهما قبلوا مزاحك ومداعباتك .. إلا أنه تبقى هناك خطوط حمراء لا يحبون أن تتعداها
..
خاصة
إذا كان ذلك أمام الآخرين ..
بعض
الناس لا يراعي ذلك ..
فتجد
أنه يعتدي على حاجاتهم ..
فمثلاً
من باب (الميانة) يأخذ هاتفك الجوال ويتصل به كما يريد .. أو ربما أرسل رسائل إلى
أشخاص أنت لا ترغب أن يظهر رقم هاتفك عندهم ..
أو
يأخذ سيارتك بغير إذنك .. أو يحرجك بطلبها حتى تأذن على مضض ..
أو
تجد مجموعة طلاب يسكنون في شقة واحدة .. يستيقظ أحدهم ليذهب إلى جامعته .. فيجد أن
معطفه لبسه فلان .. وحذاءه في رجل فلان ..
ومن
تعدي الخطوط الحمراء أنك .. تجد بعض الناس يحرج صاحبه بمزحة ثقيلة أو سؤال محرج في
مجلس عام ..
والشخص
مهما بلغ من المحبة لك .. إلا أنه يبقى بشراً يرضى ويغضب .. ويفرح ويسخط ..
لما
أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة راجعاً من تبوك ..
قدم
عليه في ذلك الشهر عروة بن مسعود الثقفي .. وكان سيداً جليل القدر .. رفيع المكانة
عند قومه ثقيف ..
فأدرك
النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة .. فأسلم ..
وسأله
أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام ..
فخاف
عليه .. وقال له : إنهم قاتلوك ..
وعرف
صلى الله عليه وسلم أن قبيلة ثقيف فيهم نخوة الامتناع .. والصرامة في التعامل ..
حتى لو كان مع رئيسهم ..
فقال
عروة : يا رسول الله .. أنا أحب إليهم من أبكارهم .. وأبصارهم ..
وكان
محبباً مطاعاً فيهم ..
فخرج
يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه .. لعظم منزلته فيهم ..
فلما
وصل إلى ديار قومه .. رقى على مرتفع وصاح بهم حتى اجتمعوا .. وهو سيدهم ..
فدعاهم
إلى الإسلام .. وأظهر لهم أنه أسلم .. وجعل يردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد
أن محمداً رسول الله ..
فلما
سمعوا منه ذلك .. صاحوا .. وثاروا أن يتركوا آلهتهم ..
ورموه
بالنبل من كل جهة ..
حتى
وقع صريعاً ..
فأقبل
إليه أبناء عمه .. وهو ينازع الموت ..
وقال
: يا عروة : ما ترى في دمك؟
فقال
: كرامة أكرمني الله بها .. وشهادة ساقها الله إلي ..
فليس
فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلا تقتتلوا
لأجلي .. ولا تأخذوا بثأري من أحد ..
فقيل
إن النبي صلى الله عليه وسلم .. لما بلغه خبر مقتله ..
قال
فيه : إن مثله في قومه .. كمثل صاحب ياسين في قومه ..
فانتبه!
الناس لهم أحاسيس مهما بلغت في القرب منهم .. وإن كانوا في منزلة الأخ والولد ..
لذا
نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .. فنهى عن ترويع المؤمن ..
كان
صلى الله عليه وسلم يوماً يسير مع أصحابه ..
وكان
كل واحد منهم معه متاعه .. سلاحه .. فراشه .. طعامه ..
نزلوا
منزلاً .. فنام رجل منهم ..
فأقبل
صاحبه إلى حبل معه فأخذه .. مازحاً ..
فاستيقظ
الرجل .. فوجد متاعه ناقصاً .. ففزع .. وأخذ يبحث عن حبله ..
فقال
صلى الله عليه وسلم : لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً ..
وفي
يوم آخر ..
كانوا
يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير ..
فنعس
رجل وهو على راحلته ..
فغافله
صاحبه وانتزع سهماً من كنانته ..
فشعر
الرجل بمن يعبث بسلاحه .. فانتبه فزعاً مذعوراً ..
فقال
صلى الله عليه وسلم : لا يحل لرجل أن يروع مسلماً ..
ومثله
الذي يمزح فيراك أوقفت سيارتك عند بقالة – مثلاً - وهي تشتغل فيأتي ويقودها ..
ويوهمك أنها سرقت .. مازحاً..
قد
يجاملك صاحبك ويضحك أحياناً على مزحة مروعة .. لكنه متألم ..
ولربما
صبر الحليم على الأذى وفؤاده من حره يتــأوه
ولربما
شكل الحليم لسانـــه حذر الكلام وإنه لمفـوه
وجهة نظر ..
كل ما زاد عن حده .. انقلب ضده .. وكم مزحة
انتهت شجاراً !!
60- حفظ
السر ..
اشتهر
قديماً : كل سرٍ جاوز الإثنين .. شاع ..
ومن
اللطائف أن أحدهم سئل : من الإثنين؟ فأشار إلى شفتيه .. وقال : هذان !!
لا
أذكر أني همست في أذن أحد من الناس بسرّ .. واستأمنته إياه .. ثم فاجأني قائلاً :
يا محمد .. اسمح لي لا أستطيع أن أكتمه ..
بل
كل شخص يضرب بيده صدره .. ويقول : والله لو وضعوا الشمس في يميني .. والقمر في
شمالي .. أو السيف على رقبتي .. على أن أخبر بسرك .. ما أخبرت!!
ثم
إذا اطمأننت ووثقت .. وكشفت له أسرارك .. تصبّر شهرين أو ثلاثة .. ثم حدث به ..
فلا يزال يُتناقل حتى يصلك..
فوجدت
أن سرك لا ينبغي أن يجاوز شفتيك .. فلا تكلف الناس ما لا يطيقون ..
إذا
ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر
أضيق
جربت
كثيراً من الناس .. فوجدتهم كذلك ..
والمشكلة
أنك تأتيهم على سبيل الاستشارة .. فيشيرون عليك .. ثم يفضحون سرك ..
فيسقطون
من عينك .. ويصبحون من أبغض الناس إليك ..
ومن
أعجب ما في التاريخ ..
أنه
قبل معركة بدر ..
لما
سمع النبي صلى الله عليه وسلم .. بقافلة قريش مقبلة وأراد قتالها ..
خرج
صلى الله عليه وسلم إليها مع أصحابه .. فلما شعر بهم أبو سفيان .. استأجر رجلاً
اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري .. وقال اذهب وأخبر قريشاً بالخبر ..
فمضى
ضمضم .. مسرعاً إلى مكة .. كان وصوله مكة يحتاج أن يسير أياماً ..
وأهل
مكة لا يدرون عن شيء من ذلك ..
وفي
ليلة من الليالي رأت عاتكة بنت عبد المطلب .. رؤيا أفزعتها .. فلما أصبحت بعثت إلى
أخيها العباس بن عبد المطلب .. فقالت له :
يا
أخي .. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني .. وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر
ومصيبة ..
فاكتم عليَّ ما أحدثك .. ولا تحدث به أحداً ..
قال
لها : نعم .. وما رأيت؟
قالت
: رأيت راكباً أقبل على بعير .. حتى وقف بوادي "الأبطح" .. ثم صرخ بأعلى
صوته : ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..!
فأرى
الناس قد اجتمعوا إليه .. ثم مضى فدخل المسجد والناس يتبعونه ..
فبينما
هم حوله .. إذ صعد به بعيره فوق الكعبة .. ثم صرخ بمثلها : انفروا يا آل غدر إلى
مصارعكم في ثلاث ..
ثم
صعد به بعيره على رأس جبل أبي قبيس ..
فصرخ بمثلها :
انفروا
يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم
أخذ صخرة فقذفها من أعلى الجبل .. فأقبلت تهوي من فوق الجبل .. حتى إذا كانت بأسفل الجبل تكسرت ..
فما
بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته كسرة من الصخرة .. فاضطرب العباس وقال : والله إن
هذه لرؤيا!
ثم
خشي أن تنتشر فيصيبه أذى .. فقال لها محذراً : وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد ..
ثم
خرج العباس منشغل البال بأمر هذه الرؤيا .. فلقي الوليد بن عتبة وسط الطريق ..
وكان له صديقاً ..
فحدثه
بالرؤيا .. وقال له : اكتمها .. فلا تخبر بها أحداً ..
فمضى
الوليد ..
فلقي
ابنه عتبة فحدثه بها ..
ثم
لم يمض سويعات ..
حتى
حدث بها عتبة .. ثم تناقلها الناس .. وفشا الحديث بها في أهل مكة .. حتى تحدثت بها
قريش في مجالسها ..
وفي
الضحى ذهب العباس ليطوف بالكعبة ..
فإذا
أبو جهل جالس في رَهْط من قريش .. في ظل الكعبة .. يتحدثون برؤيا عاتكة !!
فلما
رأى أبو جهل العباسَ قال :
يا
أبا الفضل .. إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ..
فلما
أقبل إليه العباس وجلس معهم ..
قال
له أبو جهل : يا بني عبد المطلب ..
متى حدثت فيكم هذه النبية؟
قال
: وما ذاك؟
قال
: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ..
قال
العباس : وما رأت؟
قال
: يا بني عبد المطلب ..
أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟
قد
زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث .. فسننتظر بكم ثلاثة أيام ..
فإن
يك حقاً ما تقول .. فسيكون ..
وإن
تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت العرب ..
فاضطرب
العباس .. وما رد عليه شيئاً .. وجحد الرؤيا .. وأنكر أن تكون رأت شيئاً ..
ثم
تفرقوا ..
فلما
أقبل العباس إلى بيته ..
لم
تبق امرأة من بني عبد المطلب .. إلا جاءت إليه غاضبة .. تقول : أقررتم لهذا الفاسق
الخبيث أن يقع في رجالكم ..
ثم قد تناول النساء وأنت تسمع .. أما فيكم حمية ..
فاحتمى
العباس .. وثار .. وقال : والله .. لئن عاد أبو جهل إلى مثل كلامه .. لأفعلن
وأفعلن ..
فلما
كان اليوم الثالث .. من رؤيا عاتكة ..
ذهب
العباس إلى المسجد .. وهو مغضب ..
فلما
دخل المسجد رأى أبا جهل .. فمشي نحوه يتعرضه ليعود لبعض ما قال فيقع به ..
فإذا
بأبي جهل يخرج من باب المسجد يشتد مسرعاً ..
فعجب
العباس من سرعته ..!! فقد كان مستعداً لخصومة وعراك .. فقال العباس في نفسه : ماله
لعنه الله؟! أكلّ هذا خوفٌ مني أن أشاتمه؟!
وإذا
أبو جهل قد سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي أرسله أبو سفيان ليستعين بأهل مكة
..
وإذا
ضمضم يصرخ في الوادي واقفاً على بعيره ..
قد
جدع أنف بعيره .. والدم يسيل على وجه البعير ..
وقد
شق ضمضم قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة .. اللطيمة ..
أموالكم
مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها ..
ثم
صاح بأعلى صوته : الغوث .. الغوث ..
عندها
تجهزت قريش وخرجت .. وكان من أمرها في معركة بدر ما كان ..
فتأمل
كيف انتشر السر في لمحة عين .. مع قوة الحرص وشدة الاستئمان ..!!
ومن
نشر السر أيضاً ..
أن
عمر رضي الل عنه لما أسلم .. أراد أن ينشر الخبر ..
فأقبل
إلى رجل منهم .. هو أعظمهم نشراً للإشاعة ..
فقال
: يا فلان .. إني محدثك بسرٍ .. فاكتم عني ..!
قال
: ما سرك؟
قال
: أشعرت أني قد أسلمت .. فانتبه .. لا تخبر أحداً ..
ثم
تولى عنه عمر ..
فما
كاد يغيب عنه .. حتى جعل الرجل يطوف بالناس ويردد : أعلمتَ أن عمر أسلم ..!!
أعلمتَ أن عمر أسلم ..!!
عجباً
!! وكالة أنباء متنقلة ..
وفي
يوم من الأيام بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنساً رضي الله عنه في حاجة ..
فمرَّ
بأمه .. فسألته .. إلى ماذا أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال
: والله .. ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
هكذا
كان أنس وهو صغير .. في شدة حفظه للسر ..
وأنى
لك اليوم أن تجد مثل أنس ..
قالت
عائشة tرضي
الله عنها ..
أقبلت
فاطمة تمشي .. كأن مشيتها مشية النبي صلى
الله عليه وسلم ..
فقال
النبي : مرحباً بابنتي .. ثم أجلسها عن يمينه - أو عن شماله - ..
ثم
أسرَّ إليها حديثاً .. فبكت ..
فقلت
لها : لم تبكين ..
ثم
أسرَّ إليها حديثاً .. فضحكت فقلت :
ما
رأيت كاليوم .. فرحاً أقرب من حزن ..
فسألت
فاطمة عما قال لها النبي صلى الله عليه
وسلم؟
فقالت
: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ..
حتى
قبض النبي ..
فسألتها؟
فقالت
: أسر إليَّ : إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ..
ولا أراه إلا حضر أجلي .. وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي .. فبكيت ..
فقال
: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة .. أو نساء المؤمنين .. فضحكت لذلك ..
قالوا ..
من عرف سرك أسرك ..