نواصل معكم اخواني واخواتي الكرام نشر كتاب
الدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء الخامس عشر:
54- بين الحي .. والميت ..
كان
ثقيلاً على الناس .. على زملائه .. جيرانه .. إخوانه .. حتى على أولاده ..
نعم
.. كان ثقيل الدم ..
طالما
سمعهم مراراً يقولون : يا أخي ما عندك مشاعر !!
لم
يكن يتفاعل معهم أبداً ..
أتاه
ولده يوماً فرحاً مستبشراً .. يلوّح بدفتر الواجب وقد وقع المدرس فيه كلمة "
ممتاز " .. لم يلتفت الأب إليه .. وإنما قال : طيب .. عادي .. والله لو أنك
جايب شهادة الدكتوراه !!
كان
المنتظر غير ذلك ..
طالب
عنده في الفصل .. كان خفيف الدم .. لاحظ ثقل الدرس ( والمدرس !!) فلطف الجوَّ
بنكتة أطلقها .. فلم تتحرك تعابير وجه المدرس وإنما قال : تستخف دمك ؟!
كنت
أتمنى أن يكون تصرفه غير ذلك ..
دخل
إلى البقالة .. فقال له العامل البسيط : الحمد لله .. جاءتني رسالة من أهلي .. لم
يتفاعل ..
هلا
سأل نفسه لماذا أخبره أصلاً .. ليشاركه فرحته ..
زار
أحد زملائه .. فوضع له القهوة والشاي .. ثم دخل البيت وجاء بطفله الأول حديث
لاولاده .. قد لفه في مهاده .. ولو استطاع أن يلفه بجفون عينيه لفعل .. ثم وقف به
بين يديه وقال : ما رأيك في هذا البطل ؟
فنظر
إليه ببرود .. وقال .. ما شاء الله .. الله يخلي لك إياه .. ثم رفع فنجال الشاي
ليشرب ..
كان
المنتظر أن يتفاعل أكثر .. يأخذ الغلام بين يديه .. يقبله .. يمدح جماله .. وصحته
..
لكن
صاحبنا كان ( غبياً ) ..
عندما
تتعامل مع الناس .. قس الأمور بأهميتها عندهم .. لا عندك أنت ..
فكلمة
"ممتاز" بالنسبة لولدك أغلى عنده من شهادة الدكتوراه عند الدكتور ..
وهذا
المولود عند صاحبك أغلى عنده من الدنيا .. كلما رآه ودَّ أن يشق قلبه ويسكنه فيه
.. أفلا يستحق منك حبك لصاحبك أن تشاركه ولو بعض شعوره ..
أحياناً
يكون بعض الناس متحمساً لشيء معين ..
لذلك
تجد الذين لا يتفاعلون مع الناس يشتكي أحدهم دائماً ..
لماذا
أولادي لا يحبون ( السوالف ) معي .. فنقول : لأنهم يحكون لك النكتة فلا تتفاعل ..
ويروون قصصهم في مدارسهم .. وكأنهم يكلمون جداراً ..
حتى
ذكر لك شخص قصة .. أنت تعرفها .. فلا مانع من التفاعل معه ..
قال
عبد الله ابن المبارك : والله إن الرجل ليحدثني بالحديث وأنا أعرفه من قبل أن تلده
أمه فأسمعه منه .. وكأني أول مرة أسمعه ..
ما
أجمل هذه المهارة ..
قبيل
معركة الخندق ..
عمل
المسلمون في حفر الخندق حتى أحكموه ..
وكان
من بينهم رجل اسمه جعيل .. فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو ..
فكان
الصحابة يشتغلون .. ويعملون ..
ويرددون
قائلين :
سماه
من بعد جعيل عمراً وكان للبائس يوماً ظهراً
فكانوا
إذا قالوا : عمرواً .. قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرواً ..
وإذا
قالوا : ظهراً .. قال لهم : ظهراً ..
فيتحمسون
أكثر .. ويشعرون أنه معهم ..
والله
لولا الله ما اهتدينا ..
ولما
أقبل الليل عليهم اشتد البرد ..
واستمروا
يحفرون ..
فخرج
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فرآهم
يحفرون بأيديهم راضين مستبشرين ..
فلما
رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا :
نحن
الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال
مجيباً لهم :
اللهم
إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة ..
ويستمر
تفاعله معهم .. طوال الأيام ..
فسمعهم
وقد علاهم الغبار .. وهم يرددون :
والله
لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا
صلينا
فأنزلن
سكينة علينــا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن
الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة
أبينــا
فكان
يرفع صوته متفاعلاً معهم قائلاً : أبينا .. أبينا .
وكان
صلى الله عليه وسلم إذا مازحه أحد تفاعل معه .. وضحك وتبسم ..
دخل
عليه عمر وهو غضبان على نسائه .. لما أكثرن عليه مطالبته بالنفقة .. فقال عمر :
يَا رَسُولَ اللَّهِ .. لَوْ رَأَيْتَنا وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .. نَغْلِبُ
النِّسَاءَ ..
فكنا
إذا سألت أحدَنا امرأتُه نفقةً قام إليها فوجأ عنقها ..
فَلَمَّا
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ .. فطفق نساؤنا
يتعلمن من نسائهم ..
فَتَبَسَّمَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .. ثم زاد عمر الكلام .. فازداد تبسم النبي صلى
الله عليه وسلم ..
وتقرأ
في أحاديث أنه تبسم حتى بدت نواجذه ..
وكان
صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أنواع من الناس لا يقدرون التعامل الراقي .. ولا
يتفاعلون معه .. بل ينغلقون ويتعجلون ..
ومع
ذلك كان يصبر عليهم ..
كان
صلى الله عليه وسلم .. يوماً نازلاً بموضع يقال له "الجعرانة " بين مكة
والمدينة ..
ومعه
بلال .. فجاءه صلى الله عليه وسلم أعرابي يبدو أنه كان قد طلب من النبي صلى الله
عليه وسلم حاجة فوعده بها ولم تتيسر بعد .. وكان الأعرابي مستعجلاً .. فقال :
يا
محمد .. ألا تنجز لي ما وعدتني ؟
فقال
له صلى الله عليه وسلم متلطفاً : أبشر ..
وهل
هناك كلمة أرق منها ..!!
فقال
الأعرابي بكل صلافة : قد أكثرت علي من أبشر !
فغضب
النبي صلى الله عليه وسلم من عبارته .. لكنه كتم غيظه .. والتفت إلى أبي موسى
وبلال وكانا جالسين بجانبه .. فقال :
رد
البشرى فاقبلا أنتما ..
فاستبشرا
..
ثم
دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ..
ثم
قال : اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا .. أي ببركة هذا الماء ..
فأخذا
القدح ففعلا ..
وكانت
أم سلمة رضي الله عنها قريبة منهم .. جالسة وراء ستار .. فأرادت أن لا تفوتها
البركة .. فنادت من وراء الستر : أفضلا لأمكما .. أي أبقيا لها منه ..
فأفضلا
لها منه طائفة ..
إذن
كان لطيف المعشر .. أنيس المجلس .. متحملاً .. لا يعمل قضية وخلافاً من كل شيء ..
جلس
صلى الله عليه وسلم يوماً مع عائشة ..
فأخذت
تحدثه بأحاديث نساء .. وهو يتفاعل معها ..
وهي
تفصل الكلام وتطيل .. وهو على كثرة مشاغله يستمع ويتفاعل ويعلق ..
حتى
قضت حديثها ..
فحدثته
أنه جلست إحدى عشرة امرأة – في أيام الجاهلية - فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار
أزواجهن شيئاً ..
فجعلن
يتذاكرن أزواجهن بما فيهم ولا يكذبن !!
قالت
الأولى :
زوجي
لحم جمل غث على رأس جبل ..
لا
سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ..
(
تشبه زوجها بالجبل الوعر الذي وضعوا فوقه لحم جمل كبير غير جيد .. فلا يحرص أحد
للوصول إليه لصعوبة الوصول إليه .. وهو لا يستحق التعب لأجله .. أي : لسوء خلقة ..
وأنه يتكبر .. مع أنه ليس عنده ما يتكبر بسببه فهو بخيل فقير ) ..
قالت
الثانية :
زوجي
لا أبث خبره ..
إني
أخاف أن لا أذره ..
إن
أذكره أذكر عجره وبجره ..
(
أي : زوجها كثير العيوب .. وتخشى إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه ذلك فيطلقها .. وهي
متعلقة به بسبب أولادها ..
لكنها
لم تمدحه فإن له عُجَر وبُجَر !! والعجر : أن تنعقد العروق في الجسد حتى تصير منتفخة
.. فتؤلم ..
والبُجَر
انتفاخ عروق في البطن .. !!)
قالت
الثالثة :
زوجي
العَشَنَّق ..
إن
أنطق أطلق ..
وإن
أسكت أُعلَّق ..
وهو
على حد السِّنان الـمُذَلَّق ..
(
أي : زوجها طويل قبيح .. سيء الخلق .. ولا يتسامح معها بل على مثل حد السيف !! فهي
مهددة بالطلاق كل لحظة .. لا يحتمل كلامها .. ومتى اشتكت إليه شيئاً طلقها .. ولا
يعاملها معاملة الأزواج .. فهي عنده كالمعلقة ) ..
قالت
الرابعة :
زوجي
كلَـيْـلِ تِهامة ..
لا
حَرٌ ولا قَرٌ ..
ولا
مخافة ولا سآمة ..
(
ليل تهامة لا رياح فيه فيطيب لأهله .. فوصفت زوجها بجميل العشرة .. واعتدال
الأخلاق .. فلا أذى عنده ) ..
قالت
الخامسة :
زوجي
إن دخل فَـهِد ..
وإن
خرج أَسِد ..
ولا
يسأل عما عَـهِد ..
(
أي : إذا دخل بيته صار كالفهد وهو الحيوان المعروف وهو كريم نشيط .. وغذا خرج من
البيت وخالط الناس فهو أسد لشجاعته .. وهو أيضاً سمحٌ لا يدقق في السؤال عن ما
يأخذه أهله أو يصرفونه ..)
قالت
السادسة :
زوجي
إن أكل لفَّ ..
وإن
شرب اشتفَّ ..
وإن
اضطجع التفَّ ..
ولا
يُولِج الكفَّ .. ليعلم البثَّ ..
(أي
: إن زوجها يكثر الأكل حتى يلفه لفاً فلا يبقي لهم شيئاً .. والشراف يشفّه شفاً ..
يشربه كله .. وإذا نام التفَّ باللحاف ولم يدع لزوجته شيئاً .. وإذا حزنت لم يقرب
كفه إليها أو يلاطفها ليعلم سبب حزنها .. ) ..
قالت
السابعة :
زوجي
غياياء أو عياياء ( أي غبي !! )
طباقاء
( أحمق !)
كل
داء له داء ( جميع العيوب فيه !)
إن
حدثته سبك .. ( لا يقبل حديثاً ولا مؤانسة . بل يسب ويلعن دوماً ) ..
وإن
مازحته : شجًك ( ضرب رأسك فجرحه !) ..
أو
فلًك ( ضرب الجلد فجرحه ) ..
أو
جمع كلاًّ لكِ .. ( يضرب كل المواضع الرأس والجسد ! ) ..
قالت
الثامنة :
زوجي
.. المس مس أرنب .. ( أي ناعم رقيق ) ..
والريح
ريح زرنب .. ( وهو نبات طيب الرائحة ) ..
وأنا
اغلبه والناس يغلب .. ( أي سهل معها ينصاع لما تريد .. لكنه بطل يغلب الناس
وشخصيته أمامهم قوية ) ..
قالت
التاسعة :
زوجي
رفيع النجاد .. ( بيته واسع مفتوح للضيوف ) ..
عظيم
الرماد .. ( كثير إشعال النار استقبالاً للضيوف وطبخاً لهم ) ..
قريب
البيت من الناد .. ( المجلس الذي يجلس فيه مع أصحابه وهو النادي قريب من بيته
لحرصه على أهله ) ..
لا
يشبع ليله يضاف .. ( لا يأكل كثيراً عند الناس ) ..
ولا
ينام ليلة يُخَاف .. ( إذا كان هناك خطر بالليل من عدو أو غيره .. يظل مستيقظاً
يحرس ويراقب ) ..
قالت
العاشرة :
زوجي
مالك ..
وما
مالك ؟! ..
مالك
خير من ذلك ..
له
إبل كثيرات المبارك ..
قليلات
المسارح ..
وإذا
سمعن المزهر .. أيقنَّ أنهن هوالك ..
(
زوجها اسمه مالك .. مهما وصفته لن تحيط بأوصافه الجميلة .. إبله دائماً قريبة منه
وقل ما تسرح أي تذهب للرعي ..لتكون جاهة للحلب منها ونحرها للضيوف .. وإذا سمعت
افبل صوت المزهر السكين تُحَدّ وتجهّز .. علمت أنه سيهلك بعضهن ذبحاً للضيوف ) ..
قالت
الحادية عشرة :
زوجي
أبو زرع ؟! ( اسمه أبو زرع ) ..
فما
أبو زرع ..
أناس
من حلي أذني .. ( ألبسها الحلي والذهب ) ..
وملأ
من شحم عضدي .. ( سمنت عنده ) ..
وبجحني
فبجحت إلى نفسي .. ( مدحني حتى أعجبت بنفسي ) ..
وجدني
في أهل غنيمة بشِقٍّ .. ( كان اهلها فقراء لا يملكون إلا غنيمات ) ..
فجعلني
في أهل صهيل وأطيط ( نقلها إلى بيت فيه خيل وإبل ) ..
ودائس
ومنق ( أي دواب كثيرة ) ..
فعنده
أقول فلا أقبح .. ( تتكلم بما شاءت ولا ينتقد كلامها ) ..
وأرقد
فأتصبح .. ( تشبع نوماً إلى الصباح .. لكثرة الخدم ) ..
وأشرب
فأتقنح .. ( جميع الأشربة عندها .. تروى منها ) ..
أم
أبي زرع ؟! فما أم أبي زرع !!
عكومها
رداح .. ( سمينة جميلة ) ..
وبيتها
فساح .. ( بيتها واسع ) ..
ابن
أبي زرع ؟! فما بن أبي زرع !!
مضجعه
كمسل شطبة .. ( ينام نوماً رفيقاً بأدب ) ..
ويشبعه
ذراع الجفرة .. ( لا يأكل كثيراً ) ..
بنت
أبي زرع ؟! فما بنت أبي زرع !!
طوع
أبيها وطوع أمها ..
وملء
كسائها .. ( متسترة ) ..
وغيظ
جارتها .. ( تغار جاراتها من جمالها ولذة عيشها ) ..
جارية
أبي زرع ؟! فما جارية أبي زرع !! ( الخادمة !! )
لا
تبث حديثنا تبثيثاً .. ( لا تنشر أسرار البيت ) ..
ولا
تنفث ميرتنا تنفيثاً .. ( لا تبدد طعام البيت وتعبث به ) ..
ولا
تملأ بيتنا تعشيشاً .. ( لا تهمل البيت فيمتلأ بالأوساخ ) ..
ثم
قالت :
خرج
أبو زرع والأوطاب تمخض .. ( خرج من بيته يوماً في وقت ربيع ) ..
فلقى
امرأة معها ولدان لها كالفهدين .. ( رأى امرأة جالسة حولها طفلان جميلان قويا
البنية ) ..
يلعبان
من تحت خصرها برمانتين .. ( يلعبان بثدييها ) ..
فطلقني
ونكحها .. ( أعجبته .. فطلق أم زرع وتزوجها !! ) ..
فنكحت
بعده رجلا سرياً .. ( تزوجت ام زرع رجلاً كريماً ) ..
ركب
شرياً .. ( ركب خيلاً سابقاً ) ..
وأخذ
خطياً ..
وأراح
علي نعماً ثرياً .. ( أكرمها وأهداها لأنه ثري ) ..
وأعطاني
من كل رائحة زوجاً .. ( أكثر لها من الأطياب ويعطيها اثنين من كل شيء لتستعمل
وتهدي إن شاءت ) ..
وقال
: كلي أم زرع ..
وميري
أهلك .. ( أهدي لأهلك وأعطيهم ) ..
فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي
زرع .. ( لا يزال قلبها معلقاً بأبي زرع ..!! ما الحب إلا للحبيب الأول )
كان
صلى الله عليه وسلم يستمع بكل غنصات إلى عائشة وهي تحدثه .. ولم يظهر لها ضجراً
ولا مللاً .. مع تعبه وكثرة مشاغله .. وتراكم همومه ..
حتى
إذا انتهت عائشة من حديثها :
قال صلى الله عليه وسلم : كنت لك كأبي زرع لأم
زرع ..
إذن
.. اتفقنا .. على أهمية إظهار اللطف والاهتمام بالناس ..
فإذا
جاءك ولدك متزيناً بثوب جميل .. ما رأيك يا أبي؟ .. تفاعل ..
ابنتك
.. زوجتك .. زوجك .. ولدك .. زميلتك ..
كل
من تخالطهم كن حياً متفاعلاً ..
أحياناً
تكون ناسياً الموضوع .. قال لك – مثلاً - : أبشرك الوالد شُفي من مرضه .. فلا تقل
: أصلاً .. متى مرض؟!!
أو
: أخي خرج من السجن .. لا تقل : والله ما دريت أصلاً أنه دخل السجن ..
وأخيراً
.. يا جماعة ..
التشجيع
والتفاعل ينفع حتى مع الحيوانات ..
قال أبو بكر الرقي :
كنت بالبادية ..
فوافيت قبيلة من قبائل العرب ..
فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه ..
فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيداً
بقيد .. ورأيت جِمالا قد ماتت بين يدي البيت ..
وقد بقى منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه
ينزع روحه ..
فقال لي الغلام : أنت ضيف .. ولك حق
.. فتشفع فيَّ إلى مولاي .. فإنه مكرم لضيفه .. فلا يرد شفاعتك في هذا القدر ..
فعساه يحل القيد عني ..
فسكت عنه .. ولم أدر ما جرمه ..
فلما أحضروا الطعام .. امتنعت ..
وقلت :
لا آكل .. ما لم أشفع في هذا العبد
..
فقال السيد : إن هذا العبد قد أفقرني
.. وأهلَكَ جميعَ مالي ..
فقلت : ماذا فعل؟!
فقال : إن له صوتاً طيباً .. وإني
كنت أعيش من ظهور هذه الجمال .. فحمَّلها أحمالاً ثقالاً ..
وكان ينشد الأشعار ويحدو بها .. حتى
قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته ..
فلما حطت أحمالها .. ماتت كلها ..
إلا هذا الجمل الواحد ..
ولكن أنت ضيفي .. فلكرامتك قد وهبته
لك .. وأطلق الغلام من قيده ..
فاشتقت إلى سماع هذا الصوت ..
فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل
يستقى الماء من بئر هناك .. لينشط الجمل للعمل ..
فانطلق
الغلام بصوت حسن .. فلما رفع صوته ..
سمعه
الجمل فهام وهاج ونسي نفسه .. حتى قطع حباله ..
ووقعت
أنا على وجهي من حسن الصوت .. فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه ..
طور نفسك بالتدريب ..
كن حياً لا ميتاً .. تفاعل بكلامك ..
بتعبيرات وجهك .. حتى يأنس الآخرون بك ..
55-اجعل
لسانك عذباً ..
لا
تخلو حياتنا من مواقف نحتاج فيها إلى تقديم توجيهات ونصائح للآخرين ..
الولد
.. الزوج .. الصديق .. الجار .. الأبوين ..
تختلف
نهايات النصائح .. باختلاف بداياتها ..
أعني
: إن كانت البداية بأسلوب مناسب .. ومدخل لطيف ..
انتهت
كذلك ..
وإن
كانت بأسلوب جاف .. ومدخل عنيف .. انتهت كذلك ..
عندما
ننصح الناس .. فنحن في الواقع نتعامل مع قلوبهم .. لا أجسادهم ..
لذلك
تجد بعض الأبناء يتقبل من أمه ولا يتقبل من أبيه .. أو العكس ..
والطلاب
يتقبلون من مدرس .. دون الآخر ..
وأول
البراعة في النصيحة ..
أن
لا تكثر منها وتدقق على كل صغير وكبير .. حتى لا يشعر الآخرون أنك مراقب لحركاتهم
وسكناتهم .. فتثقل عليهم ..
ليس الغبي بسيد في قومه
*.* لكن سيد قومه المتغابي
وإن
استطعت أن تقدم النصيحة على شكل اقتراح .. فافعل ..
لو
قللت الملح في الطعام .. لكان أحسن ..
لو
تغير ملابسك بثياب أجمل ..
لو
ما تتأخر عن مدرستك مرة أخرى .. أفضل ..
ما
رأيك لو فعلت كذا .. أقترح عليك كذا وكذا ..
أحسن
من قولك ..
يا
قليل الأدب .. كم مرة قلت لك .. أنت ما تفهم .. إلى متى أعلمك؟!!
اجعله
يحتفظ بماء وجهه .. ويشعر بقيمته حتى وهو مخطئ ..
لأن
المقصود علاج أخطائه لا الانتقام منه أوإهانته ..
يعني
يا جماعة .. بالعبارة الصريحة :
لا
أحد يحب أن يتلقى الأوامر ..
أراد
صلى الله عليه وسلم يوماً
أن يوجه عبد الله بن عمر للتعبد بصلاة الليل ..
فما
دعاه وقال : يا عبد الله قم الليل ..
وإنما
قدم النصيحة على شكل اقتراح .. وقال : نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل ..
وفي
رواية قال : يا عبد الله لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل ..
بل
إن استطعت أن تلفت نظره إلى الأخطاء من حيث لا يشعر فهو أولى ..
عطس
رجل عند عبد الله بن المبارك .. فلم يقل الحمد لله .. فقال عبد الله : ماذا يقول
العاطس إذا عطس؟ قال : الحمد لله .. فقال : عبد الله : يرحمك الله ..
وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذلك ..
كان
إذا انصرف من صلاة العصر .. دخل على نسائه واحدة واحدة ..
فيدنو
من إحداهن .. ويتحدث معها ..
فدخل
على زينب بنت جحش .. فوجد عندها عسلاً .. وكان صلى الله عليه وسلم
يحب العسل والحلواء ..
فاحتبس
عندها أكثر ما كان يحتبس عند غيرها ..
فغارت
عائشة وحفصة .. وتواصتا من دخل عليها تقول له :
أجد
منك ريح مغافير .. وهو شراب حلو يشبه العسل .. ولكن له رائحة سيئة ..
وكان
صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح من بدنه أو فمه ..
لأنه يناجي جبريل .. ويناجي الناس ..
فلما
دخل على حفصة .. سألته ماذا أكل؟
فقال
: شربت عسلاً عند زينب ..
فقالت
: إني أجد منك ريح مغافير ..
فقال
: لا بل شربت عسلاً .. ولن أعود له ..
ثم
قام ودخل على عائشة .. فقالت له عائشة مثل ذلك ..
ومضت
الأيام .. وكشف الله له القضية كلها ..
وبعد
أيام .. أسر إلى حفصة حديثاً .. فأظهرته ..
فدخل
عليها يوماً .. وعندها الشفاء بنت عبد الله .. وكانت صحابية تتعلم الطب .. وتعالج
الناس ..
فقال
صلى الله عليه وسلم للشفاء
: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ..
ورقية
النملة كلام كانت نساء العرب تقوله .. يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع
..
ورقية
النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال :
العروس
تحتفل .. وتختضب وتكتحل .. وكل شيء تفتعل .. غير أن لا تعصي الرجل ..
فأراد
صلى الله عليه وسلم بهذا
المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضاً .. بأن تردد جملة : غير أن لا تعصي الرجل
..
أحد
السلف استلف منه رجل كتاباً .. فرده إليه بعد أيام وعليه آثار طعام .. كأنه حمل
عليه خبزاً أو عنباً .. فسكت صاحب الكتاب ..
وبعد
أيام جاءه صاحبه يستعير منه كتاباً آخر .. فأعطاه الكتاب في طبق ..!!
فقال
الرجل : إنما أريد الكتاب .. فما بال الطبق؟!
فقال
: الكتاب لتقرأ فيه .. والطبق لتحمل عليه طعامك!!
فأخذ
الكتاب .. ومضى .. فقد وصلت الرسالة ..
وأذكر
أن أحدهم كان يعود إلى بيته ليلاً ..
وينزع ثوبه .. يعلقه على الشماعة .. وينام ..
فتأتي
زوجته .. وتفتح محفظة النقود .. ثم تأخذ الصرف الموجود .. من فئة الريال ..
والخمسة ..
فإذا
استيقظ صباحاً وذهب إلى عمله .. واحتاج أن يحاسب في بقالة ونحوها .. لم يجد صرفاً
..
فراقبها
.. حتى فهم القضية ..
فرجع
إلى بيته يوماً .. وقد جعل في جيبه ضفدعاً ..
ونزع
ثوبه كالعادة .. واضطجع كهيئة النائم .. وأخذ يشخر .. وهو يراقب الثوب ..
فأقبلت
زوجته لتأخذ ما يتيسر ..كالعادة !!
أقبلت
إلى الثوب تمشي رويداً .. أدخلت يدها بهدوووء ..
فلمست
الضفدع .. فتحرك فجأة .. فصرخت : آآآآه.. يدي ..
ففتح
الزوج عينيه .. وقال : وأنا .. آآآه .. جيبي ..
ليتنا
نستعمل هذا الأسلوب .. مع جميع الناس ..
أولادنا
إذا وقعوا في أخطاء .. ومع طلابنا ..
نايف
أحد الأصدقاء .. كان له أم صالحة .. لا ترضى أن يبقى في البيت صور أبداً .. لأن
الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ..
كان
عندها طفلة صغيرة .. عندها ألعاب متنوعة .. إلا الدُّمى .. العرائس ..
أهدت
إليها خالتها دُمية .. عروسة .. وقالت لها : العبي بها في غرفتك .. واحذري أن
تراها أمك ..
وبعد
يومين .. علمت الأم ..
فأرادت
أن تقدم النصيحة بأسلوب مناسب ..
جلسوا
على الطعام .. فقالت أم نايف : يا أولاد ..!! من يومين .. وأنا أشعر أن البيت ليس
فيه ملائكة!! لا أدري لماذا خرجت .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
والبنت
الصغيرة تسمع وهي ساكته..
وبعد
الغداء رجعت الصغيرة إلى غرفتها .. فإذا بين يديها ألعاب كثيرة .. والعروسة من
بينها .. فالتقطتها .. وجاءت بها إلى الأم وقالت : ماما .. هذه التي طردت الملائكة
.. افعلي بها ماشئت !!
يعني
دع المنصوح يحتفظ بماء وجهه .. ويمكن أن تأكل العسل من غير أن تحطم الخلية ..
لا
تنصحه كأنه قد كفر بفعله ..
بل
وأحسن الظن به .. واعتبر أنه وقع في الخطأ من غير قصد .. أو من غير أن يعلم ..
كانت
الخمر في أول الإسلام لم تحرم بعد ..
وفي
يوم أقبل عامر بن ربيعة .. الصحابي الجليل ..
من
سفر .. فأهدى لرسول الله صلى الله
عليه وسلم راوية خمر .. جرة كاملة مملوءة خمراً ..
نظر
النبي إلى الخمر مستغرباً .. والتفت إلى عامر بن ربيعة .. وقال : أما علمت أنها قد
حرمت..؟
قال
: حرمت؟! لا .. ما علمت يا رسول الله ..
قال
: فإنها قد حرمت ..
فحملها
عامر .. فأسرَّ إليه بعضهم بأن يبيعها ..
فسمعه
النبي فقال : لا .. إن الله إذا حرم شيئاً
.. حرم ثمنه ..
فأخذها
فاهرقها على التراب ..
وانتبه
أن تمدح نفسك وأنت تنصح .. فترفع نفسك وتسحب المنصوح إلى القاع .. لا أحد يرضى
بذلك ..
بعض
الآباء – مثلاً- .. إذا نصح ولده بدأ يذكر أمجاده ..أنا كنت وكنت .. ولعل الولد
يعلم تاريخ والده ..!!
باختصار ..
الكلمة الطيبة .. صدقة ..