نواصل معكم زوارنا الكرام نشر كتاب
اِسْـتـمـتِـعْ بـِحـَيـاتـِك
للشيخ الدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء الثاني
والعشرين :
78- المفتاح
..
المدح .. هو مفتاح القلوب ..
نعم .. من أجمل مهارات الكلام أن تكون مبدعاً في تعويد نفسك على اكتشاف
صواب الآخرين .. ومدحهم والثناء عليهم به .. قبل الانتباه إلى خطئهم ..
ويتأكد ذلك عندما تريد أن تنبه شخصاً إلى خطأ ما ..
كثير من الناس يرد النصيحة لا لأجل تكبره عنها .. أو عدم اقتناعه بخطئه ..
وإنما لأن الناصح لم يسلك الطريق الصحيح لتقديم النصيحة ..
هب أنك ذهبت إلى مستشفى حكومي لعلاج ..
فلما أقبلت إلى موظف الاستقبال فإذا وراء الزجاج شاب مراهق يقلب جريدة بين
يديه .. وبيده سيجاره .. غير مبال بما حوله ..
وإذا شيخ كبير أعمى يقف متعباً في يده اليمنى طفل صغير .. وفي الأخرى ورقة
مراجعة ينتظر أن يحوله الموظف إلى الطبيب ..
وإذا بجانبه عجوز كبيرة بيدها طفلة تبكي وقد تمكنت الحمى من جسدها ..
وتنتظر أيضاً الموظف أن يفرغ من قراءة أخبار ناديه المفضل ليحولها لطبيب الأطفال
..
لما رأيت هذا المنظر ثارت أعصابك – ولا نلومك على ذلك – فصرخت بالموظف :
هيه !! أنت جالس في مستشفى أو في … ما تخاف الله ؟!! المرضى يئنون من الألم وأنت
تقرأ جريدة !! لا وتدخن أيضاً !! والله عجب .. مثلك ما يربيه إلا شكوى لمدير
المستشفى .. أو المفروض أن تفصل من عملك ..
وبدأت تهيل هذه العبارات كالبرق عليه ..
هب أنه .. لم يرد عليك .. ولم يقابل صراخك بصراخ ..
هب فعلاً أنه ألقى جريدته .. وأنهى تحويل المرضى إلى الأطباء ..
هل تعتبر نفسك نجحت في حل المشكلة .. كلا .. أنت هنا عالجت الموقف لكنك لم
تعالج المشكلة .. لأنه وإن استجاب إليك الآن إلا أنه سيعود إلى تصرفه المشين غداً
وبعد غدٍ ..
إذن كيف أتصرف ؟!!
تعال إليه واكظم غيظك .. تعامل مع الموقف بعقل لا بعاطفة .. لا تدع المناظر
المؤذية تؤثر في تصرفاتك .. ابتسم – وإن كنت مغضباً ، وإن كانت الابتسامة صفراء لا
مشكلة ، ابتسم – وقل : السلام عليكم ..
سيقول وهو ينظر إلى لاعبه المفضل : عليكم السلام .. انتظر لحظة ..
قل أي كلمة تجعله يلتفت إليك .. كأن تقول : كيف الحال ؟ .. مساك الله
بالخير ..
سيرفع رأسه - حتماً – إليك ويقول : الحمد لله بخير ..
في هذه المرحلة تكون قد قطعت نصف المشوار ..
تلطف إليه بأي عبارة تمدحه بها .. قل له مثلاً : تصدق ! المفروض مثلك ما
يعمل في استقبال مستشفى ..
سيتغير ويقول : لماذا ؟
قل : لأن هذا الوجه المنير إذا رآه المريض زال مرضه فلا يحتاج إلى طبيب ..
سيبتسم متعجباً من جرأتك – يا بطل - .. وتنبلج أساريره ..
وقد صار الآن مهيئاً لقبول النصيحة .. ويقول : ماذا عندك ؟
عندها قل : يا أخي الحبيب ترى هذا الشيخ الكبير .. وهذه العجوز المسكينة ..
ليتك تنهي لهما إجراءات الدخول على الطبيب ..
سيتناول أوراقهما .. ويحولهما للطبيب .. ثم يتناول ورقتك .. فإذا انتهى منك
وسلمك الورقة ..
فقل له : سبحان الله .. هذه أول مرة أراك ومع ذلك فقد دخلت إلى قلبي .. لا
أدري كيف !! والله إنك أحب إليَّ من آلاف الناس .. - وفعلاً أنت صادق فهو مسلم أحب
إليك حتماً من ملايين غير المسلمين - ..
سيفرح ويشكر لك لطفك ..
فقل : وعندي كلمات أود أن تسمعها لكني أخاف أن تغضبك ..
سيقول : لا .. لا .. تفضل ..
عندها قدم له النصيحة .. أنت قد منّ الله عليك بهذه الوظيفة .. وفي واجهة
المستشفى .. وأنت قدوة لغيرك .. فليتك تتلطف قليلاً مع المراجعين .. وتهتم بهم ..
لعل دعوة صالحة ترفع لك في ظلمة الليل من فم عجوز عابدة .. أو شيخ زاهد ..
أجزم أنه سيخفض رأسه وأنت تتكلم .. ويردد : أشكرك .. جزاك الله خيراً ..
وكذلك استعمل هذه الأساليب مع كل شخص تعالج سلوكه ..
مثل شخص يتهاون بالصلاة .. أو أب يهمل بناته فيتكشفن .. ويتساهلن بالحجاب
..
أو شاب عاق لوالديه ..
لأجل أن يقبلوا منك لا بد أن تمارس المهارات المناسبة .. نعم .. استخدم
العبارات اللطيفة في إصلاح خطأ الآخر .. كن مؤدباً .. محترماً لرأيه ..
قل له : أنا ما أنصحك إلا لأني أعلم .. أنك تقبل النصح ..
وفي التنزيل العزيز يقول الله : ( إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة ) ..
وقد كان المربي الحكيم صلى الله عليه وسلم يستعمل طرقاً ومهارات
تجعل من يعدل سلوكهم لا يملكون إلا أن يقبلوا منه ..
أراد يوماً أن يعلم معاذ بن جبل ذكراً يقوله بعد الصلاة ..
فأقبل إلى معاذ وقال : يا معاذ .. والله إني أحبك .. فلا تدعن في دبر كل
صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..
بالله عليك .. ما علاقة المقطع الأول من الكلام "والله إني أحبك
" بالمقطع الثاني " لا تدعن أن تقول اللهم أعني على ذكرك "..
قد يكون الأنسب لقوله إني أحبك أن يقول بعدها وأريد أن أزوجك ابنتي – مثلاً
– أو أعطيك مالاً .. أو أدعوك إلى طعام ..
ولكن أن يتبع خبر المحبة تعليمه ذكراً من أذكار الصلاة ..!! فهذا يحتاج إلى
تأمل ..
أتدري ما موقع قوله : " والله إني أحبك " ؟ إنه التهيئة لقبول
النصيحة .. فإذا ارتاحت نفس معاذ واستبشر ، أعطاه النصيحة ..
وفي موقف آخر .. قبض صلى الله عليه وسلم يد عبد الله بن مسعود
بيده اليمنى ، ثم وضع يده اليسرى فوقها ، كنوع من العطف والتهيئة ، ثم قال : يا
عبد الله .. إذا جلست في التشهد فقل : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته ..
ومضت السنين ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فكان
عبد الله يفخر بذلك ويقول : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي
بين كفيه ..
وفي يوم آخر لاحظ صلى الله عليه وسلم أن عمر رضي الله عنه
إذا طاف بالكعبة وحاذى الحجر الأسود .. زاحم الناس وقبله .. وكان صلباً قوي البدن
.. وربما زاحم الضعفاء ..
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعدل سلوكه .. فقال – على سبيل
التهيئة لقبول النصيحة - : يا عمر إنك رجل قوي ..
فرح عمر بهذا الثناء .. فقال صلى الله عليه وسلم : فلا تزاحمن
عند الحجر ..
ومرة أراد أن ينصح ابن عمر بقيام الليل .. فقال :
نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل .. وفي رواية قال : يا عبد الله لا
تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل ..
لا تكن مثل فلان .. كان يقوم الليل .. فترك قيام الليل ..
نعم .. كان صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الأسلوب الرائع مع
جميع الناس .. ومع الوجهاء خاصة ..
في بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .. كان الناس ما بين
مقبل ومدبر ..
وكان رجل في المدينة اسمه سويد بن الصامت وكان رجلاً شريفاً في قومه ..
عاقلاً شاعراً .. يحفظ كلام الحكماء .. حتى قيل إنه كان يحفظ كل ما روي عن لقمان
الحكيم ..
حتى بلغ من إعجاب الناس به أنهم كانوا يسمونه : الكامل .. لجلده وشعره ..
وشرفه ونسبه .. وهو الذي يقول :
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى
مقالته
بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهداً
وبالغيب
مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة
غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما
هو كاتم
من
الغل والبغضاء بالنظر الشزر
قدم سويد بن الصامت يوماً إلى مكة حاجاً .. أو معتمراً ..
فتحدث الناس بدخوله مكة .. وأقبلوا لرؤيته .. فسمع النبي صلى الله
عليه وسلم به فأقبل عليه .. فدعاه إلى الله .. وإلى الإسلام .. وجعل يحدثه
بالتوحيد والرسالة وأنه نبي يوحى إليه قرآن .. وأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى
.. فيه عبر وأحكام ..
فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الذي معك ؟
قال : معي مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - ..
فلم يعنفه صلى الله عليه وسلم أو يحقره .. - مع أنه يضاهي كلام
الله بكلام البشر - .. وإنما تلطف معه .. وقال صلى الله عليه وسلم: اعرضها
علي ..
فشرع سويد يقرأ ما يحفظ من كلام لقمان وحِكَمِه .. ورسول الله صلى الله عليه
وسلم يستمع إليه بكل هدوء ..
فلما انتهى سويد .. قال صلى الله عليه وسلم له : إن هذا لكلام
حسن ..
ثم قال - مشوقاً لسويد - : والذي معي أفضل من هذا .. قرآن أنزله الله تعالى
علي .. هو هدى ونور ..
ثم تلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .. ودعاه إلى
الإسلام .. وسويد يستمع منصتاً .. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه ..
ظهر على سويد التأثر .. وقال : إن هذا لقول حسن ..
ثم انصرف سويد عن النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا يزال
متأثراً بما سمع ..
فقدم المدينة على قومه .. فلم يلبث أن وقع قتال بين قبيلتي الأوس والخزرج
.. وكان من قبيلة الأوس فقتلته الخزرج ..
وذلك قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
.. ولا يدرى هل أسلم أم لا ؟ وإن كان رجل من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قتل وهو
مسلم ..
باختصار ..
أسرف في المديح .. واقتصد في النقد ..
79- الرصيد العاطفي
تصورات الناس عنا نحن الذين نصنعها ..
فلو لقيك شخص في السوق فعبس في وجهك ..
ثم لقيك في بقالة .. فعبس في وجهك أيضاً ..
ثم صادفته في عرس .. فلقيك عابساً .. لرسمت عنه صورة قاتمة في مخيلتك ..
فإذا رأيت صورته أو سمعت اسمه في مكان تبادر إلى ذهنك ذاك الوجه العابس ..
ولو لقيك شخص بابتسامة في موقف .. ثم ابتسم في لقاء آخر .. وثالث .. لانطبع
في ذهنك عنه صورة مشرقة ..
هذا فيمن لا يكون بينك وبينه علاقة دائمة وإنما هي لقاءات عابرة ..
أما الأشخاص الذي نلقاهم دائماً كزوجة وأولاد .. وزملاء في مكتب .. وجيران
في حارة .. فإن تعاملنا معهم لن يكون بأسلوب واحد دائماً .. نعم هم سيروننا ضاحكين
لطيفين .. لكنهم حتماً سيروننا تارة غاضبين .. وتارة عابسين .. أو مخاصمين .. أو
شاتمين .. لأننا بشر ..
وبالتالي فإن محبتهم لنا تتحدد على حسب طغيان حسناتنا عندهم أو سيئاتنا ..
أو قل بعبارة أخرى : تتحدد محبتهم لنا بحسب مقدار الرصيد العاطفي الذي في حسابنا
عندهم ..
كيف ؟!
عندما يقع لك موقف جميل مع إنسان فإنك تضيف إلى سجل ذكرياته ذكرى جميلة عنك
.. أو بعبارة أخرى تفتح لك في قلبه حساباً تودع فيه محبة لك واحتراماً .. ثم تتولى
بعد ذلك زيادة رصيدك العاطفي أو السحب منه ..
فكل ابتسامة تقابله بها .. تزيد من رصيدك العاطفي عنده ..
وكل هدية .. تزيد رصيدك العاطفي ..
وكل مجاملة .. تزيد رصيدك العاطفي ..
وكل إهانة تقع منك له .. أو مسبة .. أو شتم .. فإنك تسحب من رصيدك العاطفي
..
وبالتالي إذا كان رصيدك العاطفي عنده كثيراً .. ووقعت يوماً ما في موقف
أغاظه فسحبت من رصيدك العاطفي مقداراً معيناً .. فإن هذا لن يؤثر كثيراً لأن رصيدك
العاطفي عنده كثير ..
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت
محاسنه بألف شفيع
أما إن لم يكن عنده لك رصيد عاطفي وجعلت تسحب من الرصيد وليس فيه شيء أصلاً
.. فإن حسابك عنده سيكون بالناقص !! وبالتالي قد يقع في قلبه لك كره .. أو استثقال
.. لأنك تسحب من رصيدك العاطفي ولا تودع ..
ألم تسمع يوماً عن زوجة طلقها زوجها .. فإذا سئلت عن سبب الطلاق قالت :
السبب تافه .. طلب مني الذهاب معه لزيارة أخته فرفضت .. فغضب وجعل يسبني ويشتمني
ثم طلقني !!
ولو تأملت بذكاء في سبب الطلاق .. لما وجدت السبب هو هذا الموقف التافه ..
وإنما هذا الموقف هو القشة التي قصمت ظهر البعير ..
فقد ذُكر أن رجلاً كان له جمل جد قوي .. فأراد سفراً .. فجعل يحمل متاعه
عليه .. ويربطه على ظهره .. والجمل متماسك .. حتى كوم على ظهره ما يحمله أربعة
جمال .. فبدأ البعير يهتز من ثقل الحمل والناس يصيحون بالرجل : يكفي ما حملت عليه
.. فأخذ حزمة من تبن وقال : هذه خفيفة وهي آخر المتاع .. فلما طرحها على ظهره سقط
البعير على الأرض .. فقيل : قشة قصمت ظهر بعير !!
ولو تفكرت لرأيت أن القشة مظلومة فليست هي التي قصمت ظهر البعير وإنما
انقصم ظهر البعير بسبب تراكمات كبار صبر البعير على أولها .. وصبر .. وصبر .. حتى
لم يطق صبراً .. فانقصم ظهره بشيء صغير ..
وهكذا المرأة التي طلقها زوجها .. أجزم أن السبب ليس هو تركها زيارة أخته
فحسب .. وإنما تراكمات قبله .. من عصيان لطلباته .. عدم تحقيق لرغباته .. عدم
تحببها إليه .. تكبرها عليه .. عدم احترام رأيه .. فهي تسحب دوماً من رصيدها
العاطفي عنده دون أن تودع فيه شيئاً .. وتجرح ولا تداوي ..
وهو يحتمل ويحتمل .. حتى جاء هذا الموقف فقصم ظهر البعير ..
ولو أنها اعتنت بكثرة الإيداع في رصيدها العاطفي .. من حسن لقاء له ..
وتغنج ودلال .. وتحبب إليه .. وممازحة وخفة ظل .. وعناية بطعامه ولباسه .. واحترام
لرأيه .. لصار رصيدها العاطفي كبيراً .. وملكت مليارات في قلبه .. وبالتالي لن يضر
لو وقع موقف سحبت به من رصيدها العاطفي ..
وقل مثل ذلك في الطالب المشاكس الذي يقع منه موقف صغير فيغضب المدرس غضباً
شديداً .. وقد يضربه ويطرده من الفصل .. و .. ثم يقول الطالب أنا ما فعلت شيئاً هي
مجرد نكتة أطلقتها من غير استئذان .. ولا ينتبه إلى أن هذه النكتة هي القشة التي
قصمت ظهر البعير ..
قل مثله في زملاء تخاصموا .. أو جيران تنازعوا ..
إذن .. نحن نحتاج دائماً إلى ان نودع في قلب كل واحد نلقاه رصيداً عاطفياً
..
الزوج يتحين الفرص ليودع في قلب زوجته .. ويسجل نقاطاً أكثر وأكثر ..
والزوجة تحتاج أيضاً ..
والولد يحتاج أن يودع في قلب والده ..
والمدرس مع طلابه .. والأخ مع أخيه ..
بل حتى المدير مع من هم تحت إدارته .. يحتاج إلى ذلك ..
باختصار ..
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت
محاسنه بألف شفيع
80- الساحر ..
الكلام ببلاش .. يا أخي سَمِّعنا كلمة حلوة ..
هكذا بدأت المسكينة تعاتب زوجها ..
صحيح هو ما قصر معها في طعام ولا لباس .. ولكنه لم يكن يسحرها بمعسول
الكلام ..!!
يجمع العقلاء أن أهم صفات البائع الماهر أن يكون ساحراً في كلامه .. فيردد
: من عيوني .. تفضل .. خل الحساب علينا .. تعبك راحة ..
وتزيد قيمة البائع كلما زادت عباراته جمالاً ...فإن
أضاف إلى حسن العبارة جودة في وصف السلعة .. وقدرة على إقناع الزبون بالشراء ..
صار قد اكتسب نوراً على نور ..
ويجمع المجربون أن من أهم صفات
السكرتير أن يكون لسانه عذباً .. وعباراته حلوة .. فيطرب الأسماع بقوله : سَمْ ..
أبشر .. نحن خدّامينك ..
وربما شغفت زوجة بزوجها حباً
.. وهو كثير البخل قليل الجمال .. لكنه يسحرها بعباراته ..
أذكر أن شاباً مراهقاً كان
مغرماً بمغازلة الفتيات .. وكان له قدرة عجيبة على الإيقاع بهن .. وكم من مسكينة
صارت متيمة بحبه .. عالقة بشراكه .. ومن العجب أنه لم يكن يملك سيارة فارهة يغريهن
بركوبها .. ولم تكن جيبه مليئة بالمال ليغدق عليهن الهدايا ..
ولا تظنن أنه أوتي وسامة أو
جمالاً .. كلا .. فإني أسأل الله لك أن لا تبتلى بالنظر إلى وجهه!!
لكنه كان يغلق فمه على لسان ..
لو تكلم مع حجر لفلقه .. ولو سمعه نهر لدفّقه ..
فكان يصطاد الفتيات بلسانه
اصطياداً .. بل يسحرهن سحراً ..
وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
أقبل يوماً إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثلاثةُ رجال سادة في قومهم ..
قيس بن عاصم .. والزبرقان بن
بدر .. وعمرو بن الأهتم ..
وكلهم من قبيلة تميم ..
فبدؤوا يتفاخرون ..
فقال الزبرقان : يا رسول الله
.. أنا سيد تميم .. والمطاع فيهم .. والمجاب فيهم .. أمنعهم من الظلم .. فآخذ لهم
بحقوقهم ..
ثم أشار إلى السيد الآخر عمرو
بن الأهتم .. وقال : وهذا يعلم ذاك ..
فأثنى عمرو عليه وقال : والله
يا رسول الله .. إنه لشديد العارضة .. مانع لجانبه .. مطاع في ناديه ..
ثم سكت عمرو ..
فغضب الزبرقان .. وودَّ لو لأن
عمرواً زاد في الثناء .. وظن أنه حسده على سيادته ..
فقال الزبرقان : والله يا رسول
الله .. لقد علم ما قال .. وما منعه أن يتكلم به إلا الحسد ..
فغضب عمرو .. وقال : أنا أحسدك؟!!
فوالله إنك لئيم الخال .. حديث المال .. أحمق الموالد .. مضيع في العشيرة .. والله
يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً .. وما كذبت فيما قلت آخراً .. لكني رجل
رضيت فقلت أحسنَ ما علمت .. وغضبت فقلتُ أقبحَ ما وجدت .. ووالله لقد صدقت في
الأمرين جميعاً ..
فعجب صلى الله عليه وسلم من
سرعة حجته .. وقوة بيانه .. ومهارات لسانه ..
فقال : إن من البيان لسحراً ..
إن من البيان لسحراً..
فكن مبدعاً في مهارات لسانك ..
فلو قال لك : ناولني القلم .. قل : من عيوني .. تفضل ..
ولو قال .. لكن يا فلان عندي
طلب : اطلب عيوني .. سَمْ ..
أريد منك خدمة : تفضل .. خدمنا
أناساً ما يساوون أثر رجليك ..
مارس هذا الأسلوب الذي يدغدغ
المشاعر .. مع أمك .. نعم أسمعها كلمات رقيقة لينة ..
مع أبيك .. زوجتك .. أولادك ..
زملائك ..
فهذا الأسلوب لا يخسرك شيئاً
.. وتسحر به الآخرين .. وتزيل ما في نفوسهم ..
وانظر إلى حال الأنصار بعد
معركة حنين ..
الأنصار الذين قاتلوا مع النبي
في بدر ثم قتلوا في أحد .. وحوصروا في الخندق .. ولا زالوا معه يقاتلون ويُقتَلون
.. حتى فتحوا معه مكة .. ثم مضوا إلى معركة حنين ..
ففي الصحيحين ..
أن القتال اشتد أول المعركة ..
وانكشف الناس عن رسول الله .. فإذا الهزيمة تلوح أمام المسلمين ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى
أصحابه .. فإذا هم يفرون من بين يديه ..
فصاح بالأنصار ..
يا معشر الأنصار .. فقالوا :
لبيك يا رسول الله ..
وعادوا إليه .. وصفوا بين يديه
..
ولا زالوا يدفعون العدو
بسيوفهم .. ويفدون رسول الله بنحورهم ..
حتى فر الكفار وانتصر المسلمون ..
وبعدما انتهت المعركة.. وجمعت
الغنائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم
.. أخذوا ينظرون إليها ..
وأحدهم يتذكر أولاده الجوعى ..
وأهلَه الفقرا .. ويرجو أن يناله من هذه الغنائم شيء يوسع به عليهم ..
فبينما هم على ذلك ..
فإذا برسول الله .. يدعو
الأقرع بن حابس - ما أسلم إلا قبل أيام في فتح مكة .. فيعطيه مائة من الإبل .. ثم
يدعو أبا سفيان ويعطيه مائة من الإبل ..
ولا يزال يقسم النعم .. بين
أقوام .. ما بذلوا بذل الأنصار .. ولا جاهدوا جهادهم .. ولا ضحوا تضحيتهم ..
فلما رأى الأنصار ذلك ..
قال بعضهم لبعض : يغفر الله
لرسول الله .. يعطي قريشاً ويتركنا ..
وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فلما رأى سيدهم سعد بن عبادة ذلك .. دخل على رسول الله .. فقال :
يا رسول الله .. إن أصحابك من
الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم .. قال : وما ذاك؟!!
قال : لما صنعت في هذا الفيء
الذي أصبت .. قسمت في قومك .. وأعطيت عطاياً عظاماً .. في قبائل العرب ..
ولم يكن في الأنصار منه شئ ..
فقال صلى الله عليه وسلم :
فأين أنت من ذلك يا سعد؟
قال : يا رسول الله .. ما أنا
إلا امرؤ من قومي ..
فقال : فاجمع لي قومك.. فلما
اجتمعوا .. أتاهم رسول الله ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال
: يا معشر الأنصار .. مقالة بلغتني عنكم؟
قالوا : أما رؤساؤنا يا رسول
الله فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله
يعطي قريش ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا
معشر الأنصار .. ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ..
قالوا : بلى ولله ورسوله ..
المنة الفضل ..
قال : ألم تكونوا عالة فأغناكم
الله .. وأعداءً فألف بين قلوبكم ..
قالوا : بلى ولله ورسوله ..
المنة الفضل ..
ثم سكت رسول الله .. وسكتوا ..
وانتظرَ .. وانتظروا ..
فقال : ألا تجيبوني يا معشر
الأنصار ..
قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول
الله .. ولله ولرسوله المنة والفضل ..
قال : أما والله لو شئتم لقلتم
.. فلصَدَقتم ولصُدِّقتم ..
لو شئتم لقلتم : أتيتنا مكذباً
فصدقناك .. ومخذولاً فنصرناك .. وطريداً فآويناك .. وعائلاً فواسيناك ..
ثم قال : يا معشر الأنصار ..
أوجدتم على رسول الله في أنفسكم .. في لعاعة من الدنيا .. تألفت بها قوماً ليسلموا
.. ووكلتم الى إسلامكم ..
إن قريشاً حديثوا عهد بجاهلية
ومصيبة .. وإني أردت أن أجبرهم .. وأتألفهم ..
ألا ترضون يا معشر الأنصار ..
أن يذهب الناس بالشاة والبعير .. وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ..
لو سلك الناس وادياً أو شعباً
.. وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً .. لسلكت وادي الأنصار .. أو شعب الأنصار ..
فوالذي نفس محمد بيده .. إنه
لولا الهجرة .. لكنت امرءاً من الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار .. وأبناء الأنصار
.. وأبناء أبناء الأنصار ..
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم
.. وقالوا : رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً.. ثم انصرف رسول الله وتفرقوا ..
بل إنك بالعبارات الجميلة
تستطيع أن تخدر الناس أحياناً ..
ذكر أنه كان في صعيد مصر رجل
غني متسلط يسمونه الباشا كان يملك فدادين
من المزارع .. كان متغطرساً يمارس أصناف الإذلال على المزارعين الصغار ..
دار الزمان دورته فأصاب أرضه
ما أتلفها .. فأصبح فقيراً بعد غنى .. كسيراً
جاع أولاده وهو ليس عنده مصدر
يتكسب منه .. ولا يعرف صنعة غير الزراعة .. لكن أرضه تالفة ..
فخرج يبحث عن عمل .. أي عمل ..
أقبل على مزرعة لأحد الفلاحين
الضعفاء الذين ذاقوا من إذلاله قديماً .. دخل عليه .. وقال بكل مذلة : هل أجد عندك
عملاً .. أقطف الثمر .. أو أنقي الحبوب .. أو أقلم الأشجار .. أو ..
فثار المزارع في وجهه وقال :
أنت تعمل عندي!! أنت المتكبر المتغطرس .. الحمد لله أن استجاب دعاءنا عليك وأذلك
.. ثم طرده من بستانه ..
مضى يجر قدمي خيبته .. حتى دخل
بستاناً آخر .. فإذا بفلاح له معه ذكريات أليمة .. فطرده كما طرده الأول ..
مضى الباشا!! المسكين لا يلوي
على شيء .. ولا يريد أن يرجع إلى أولاده خالياً ..
مر على مزرعة لفلاح ثالث ..
فدخل ليجرب حظه معه ..
رآه الفلاح فانبهر .. وقد ذاق
أيضاً من إذلاله من قبل .. قال الباشا : أنا أبحث عن عمل .. أولادي جوعى ..
فأراد الفلاح أن يذله .. وأن
ينتقم منه بأسلوب ذكي ..
فقال له : أهلاً أيها الباشا!!
نورت بستاني!! من مثلي اليوم الباشا الكبير يدخل أرضي!! أنت الباشا الكبير .. أنت
الباشا الوجيه!! أنت ..
وجعل يخدّره بهذه العبارات ..
حتى صار الباشا منوماً تنويماً مغناطيسياً!!
ثم قال الفلاح : مرحباً وأهلاً
.. عندي عمل .. لكني لا أدري هل يناسبك أم لا؟
قال الباشا : وما هو ؟
قال : اليوم سوف أحرث الأرض ..
وعندي محراث يجره ثوران .. ثور أبيض وثور أسود .. والثور الأسود اليوم مريض ولا
يستطيع أن يعمل .. والثور الأبيض لا يطيق جر الحراثة وحده .. فأريدك أن تقوم اليوم
بوظيفة الثور الأسود .. فأنت قوي أيها الباشا .. أنت قائد .. أنت رئيس .. تسير في
الأمام دائماً ..
توجه الباشا بكل كبرياء إلى
الحراثة .. ووقف بجانب الثور الأبيض .. أقبل المزارع إليه وبدأ بالثور الأبيض
وربطه بالحبال ليجر المحراث .. ثم توجه إلى الباشا وهو يردد قائلاً : يا أحسن باشا
في العالم .. يا قوي .. يا بطل .. والباشا يتلفت في زهو .. ثم ربط الحبال في كتفي
الباشا .. وركب هو على الحراثة معه السوط !! وصاح : امش .. وضرب ظهر الثور فتحرك
.. وتحرك الباشا يجر المحراث .. والفلاح يردد : جميل يا باشا .. ممتاز يا ملك ..
ويضرب ظهر الثور .. ويصيح أقوى يا باشا .. أحسن يا باشا ..
والباشا المسكين لم يتعود على
ذلك .. لكنه كان يجر بكل قوته .. من الصباح حتى غابت الشمس .. وكأنه غائب العقل ..
فلما انتهى فك الفلاح عنه
الحبال .. وهو يقول : والله شغلك جميل يا باشا .. هذا أحسن يوم مر علي يا باشا ..
ثم بضع جنيهات .. ومضى الباشا
إلى بيته ..
دخل على أولاده .. وقد تقرحت
كتفاه .. وسالت الدماء من أسفل قدميه .. والعرق يغرق ثيابه .. و .. لكنه لا يزال
منتشياً مخدراً ..
سأله أولاده : هاه .. هل وجدت
عملاً ..
فقال - بكل فخر - : نعم .. أنا
الباشا .. كيف لا أجد عملاً ..
فقالوا : فماذا اشتغلت؟!
فقال : اشتغلت .. هاه!! اشتغلت!!
وبدأ يصحو من تخديره .. ويدرك
ما أصابه ..
قال : اشتغلت ثوراً !!!
قرار ..
اختر أطيب الكلام كما تختار أطيب الثمر ..