للشيخ الدكتور محمد العريفي حفظه الله
والذي تحدث فيه عن
مهارات وفنون التعامل مع الناس
في ظل السيرة النبوية
وقضايا اجتماعية هامة
الجزء الرابع والعشرين :
أحياناً عند ممارستنا لبعض المهارات مع الآخرين نكتشف بأننا أخطأنا تقدير
المهارة المناسبة للشخص .. أو قد نكون وضعناها في غير موضعها ..
مثل من رأى شاباً وسيماً .. فأراد أن يمارس معه مهارة " كن لماحاً
" فقال له : ما شاء الله ما هذه الثياب الجميلة والرونق البهي والوجه المسفر
.. ثم بدل أن يقول : ما أسعد زوجتك بك.. قال : يا ليتك بنتاً حتى أتزوجك !!!
مزحة ثقيلة جداً .. أليس كذلك؟!
قال أحد الزملاء :
في الجامعة كان لدي طالب بليد لكن الله تعالى عوضه عن بلادته بشيء من
الوسامة .. وكان يجلس في آخر القاعة دائماً .. ويسرح بفكره بعيداً ..
كنت أطلب منه دائماً أن يجلس في الأمام ليتابع .. وهو يتغافل عن ذلك .. كنت
أتجنب إحراجه أو إحراج غيره من الطلاب فهم كبار في المرحلة الجامعية ..
دخلت يوماً فإذا هو منشغل آخر القاعة كعادته .. فلما جلست على الكرسي قلت
له : يا عبد المحسن .. تعال في الأمام .. فقال : يا دكتور مكاني مناسب وسأنتبه معك
..
فقلت : ‘ يا
أخي اقترب قليلاً خلنا نشوف خدودك الحلوة ‘ .. التفت بعض الطلاب إليه معلقين .. فانقلب وجهه أحمر ..
شعرت أني وقعت في حفرة .. فقلت - مرقعاً - : ‘ الله يا هي بتنبسط البنت اللي بتتزوجك .. أما هؤلاء فسيتعبون
ليجدوا من توافق على الزواج بهم !!’.
ثم بدأت في شرح الدرس فوراً دون أن أترك فرصة لأحد ليفكر في الموقف أصلاً
.. تبسم الطالب وانبلجت أساريره وجلس في المقدمة ..
وإن كانت هذه الأخطاء قد تقع في بداية التدرب على ممارسة المهارات لكنها
سرعان ما تزول ..
وأحياناً يكون تصرفك المحرج للآخرين أو المحزن لهم ليس خاطئاً .. لكن
الموقف يفرضه علينا ..
مثل أن يختلف اثنان من زملائك .. فترى أن الحق مع أحدهما فتقف معه .. وقد تعاتب الآخر ..
أو قد يقع ذلك بين اثنين من أولادك أو طلابك أو جيرانك .. أو غيرهم ..
فما الحل؟ هل نسمح لهذه المواقف أن تفقدنا الناس واحداً تلو الآخر .. ونحن
نتعب في استقطابهم والتحبب إليهم ..
كلا ..
إذن ما التصرف الصحيح؟
الجواب : أنك إذا أحسست أن أحداً ضاق صدره من كلمة منك .. أو تضايق من تصرف
معين فسارع فوراً إلى مداواة الجرح قبل أن يلتهب .. باستعمال أي مهارة أخرى مناسبة
..
كيف؟!
خذ مثالاً ..
كانت مكة قبل أن يفتحها المسلمون تحت قبضة كفار قريش ..
وكانوا قد ضيقوا على المسلمين المستضعفين فيها .. وسيطروا على أبناء
المسلمين الذين هاجروا ولم يستطيعوا أخذ أبنائهم معهم ..
فعلاً كانت حال المسلمين عصيبة ..
أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً فردته قريش .. وكان ما كان
من قصة الحديبية .. وكتب صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش صلحاً .. واتفق معهم
أن يرجع إلى المدينة من غير عمرة على أن يأتي في العام القادم ويعتمر ..
ومضى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ..
وبعد سنة أقبل صلى الله عليه وسلم مع الصحابة محرمين ملبين .. ودخلوا مكة
.. واعتمروا ..
لبث صلى الله عليه وسلم فيها أربعة أيام .. فلما توجه خارجاً منها إلى
المدينة تبعته طفلة صغيرة هي ابنة حمزة رضي الله عنه .. وكان قد قتل في معركة أحد
.. وبقيت ابنته يتيمة في مكة ..
أخذت الصغيرة تنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
تقول : يا عم يا عم ..
وكان علي يسير بجانب النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ..
فتناولها علي كرم الله وجهه فأخذ بيدها وناولها لفاطمة وقال : دونك ابنة
عمك ..
فحملتها فاطمة ..
فلما رآها زيد رضي الله عنه .. تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
آخى بينه وبين حمزة لما هاجر إلى المدينة .. فأقبل زيد إليها ليأخذها وهو يقول :
بنت أخي .. أنا أحق بها ..
فأقبل جعفر وقال : ابنة عمي وخالتها تحتي .. يعني أسماء بنت عميس زوجته ..
وأنا أحق بها ..
فقال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ..
فلما رأى صلى الله عليه وسلم اختلافهم .. قضى بها لخالتها ودفعها إلى جعفر
ليكفلها .. وقال : " الخالة بمنزلة الأم " ..
ثم خشي صلى الله عليه وسلم أن يجد علي أو زيد في نفسيهما .. لما نزعها
منهما ..
فقال مواسياً لعلي : " أنت مني و أنا منك " ..
وقال لزيد : " أنت أخونا و مولانا " ..
ثم التفت إلى جعفر وقال : " أشبهت خلقي وخلقي " ..
فانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم حكيماً ماهراً في غسل قلوب الآخرين وكسب
محبتهم ..
طيب ما رأيك أن نعود إلى قصة صاحبنا الذي قال : يا ليتك بنتاً حتى أتزوجك!!
كيف يرقع ما خرّق؟!!
بين يديه عدة أبواب للهرب ..
منها أن يدخل في موضوع آخر مباشرة –لئلا يترك للسامع فرصة ليفكر في الجملة
الجارحة التي سمعها منه– فيقول مثلاً : الله يرزقك حورية أجمل منك .. قل : آمين ..
أو يطرح موضوعاً بعيداً تماماً .. كأن يسأله عن أخيه المسافر .. أو سيارته
الجديدة .. أو نحوها .. لئلا يترك له أو لغيره من السامعين حوله أي فرصة للوقوع في
الحرج ..
تجربة ..
ليس العيب أن تخطئ
إنما الخطأ أن تصر عليه
84- انظر بعينين ..
نحن نبدع في أحيان كثيرة في رؤية أخطاء الناس وملاحظتها .. وربما في
تنبيههم عليها ..
ولكننا قلما نبدع في رؤية الخير الذي عندهم .. والانتباه إلى الصواب الذي
يمارسونه .. لنمدحهم به ..
قل ذلك في المدرس مع طلابه .. فكل المدرسين يذمون الطالب البليد المهمل في
واجباته .. الكسول المتأخر في الحضور دائماً .. لكن قليلاً منهم من يمدح الطالب
المجد .. الذي يحضر مبكراً وخطه حسن وكلامه جيد ..
كثيراً ما ننبه أولادنا إلى أخطائهم .. لكنهم يحسنون ولا ننتبه إلا قليلاً
..
مما يجعلنا أحياناً نفوت فرصاً كثيرة كنا من خلالها نستطيع أن ننفذ إلى
قلوب الناس ..
فمن أبدع مهارات الكلام .. أن تمتدح الخير الذي عند الناس ..
كان قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لهم اهتمام بتلاوة القرآن وحفظه ..
وربما فاقوا كثيراً من الصحابة في كثرة تلاوته وتحسين الصوت به ..
فرافقوا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في سفر ..
فلما أصبح الناس .. واجتمعوا قال عليه الصلاة والسلام :
"إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل .. وأعرف
منازلهم .. من أصواتهم بالقرآن بالليل .. وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار
..."
فكأنك بألاشعريين وهم يستمعون هذا الاثناء أمام الناس يتوقدون حرصاً بعدها
على الخير ..
وفي ذات صباح .. لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى .. فقال له :
لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك .. لقد أوتيت من مزامير
آل داود ..
فقال أبو موسى : لو علمت أنك تستمع لقراءتي .. لحبرتها لك تحبيراً ..
وكان عمرو بن تغلب رضي الله عنه رجلاً من عامة الصحابة .. لم يتميز بعلم
كما تميز أبو بكر .. ولا بشجاعة كما تميز عمر .. ولا بقوة حفظ كأبي هريرة .. لكن
قلبه كان مملوءاً إيماناً .. وكان صلى الله عليه وسلم يلحظ ذلك فيه ..
فبينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً يوماً ..
إذ جيء إليه بمال فجعل يقسمه بين بعض أصحابه ..
فأعطى رجالاً .. وترك رجالاً ..
فكأن الذين تركهم وجدوا في أنفسهم .. وعتبوا .. لماذا لم يعطنا ..
فلما علم صلى الله عليه وسلم بذلك .. قام أمام الناس .. فحمد الله تعالى ثم
أثنى عليه .. ثم قال :
أما بعد .. فوالله إني لأعطي الرجل .. وأدع الرجل .. والذي أدع أحبُّ إليَّ
من الذي أُعطي ..
ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ..
وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير .. منهم : عمرو بن
تغلب ..
فلما سمع عمرو بن تغلب هذا الثناء على الملأ .. طار فرحاً ..
وكان يحدث بهذا الحديث بعدها .. ويقول : فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول
الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم..
وفي يوم آخر ..
أقبل أبو هريرة رضي الله عنه .. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم .. قائلاً :
من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ..
فقال صلى الله عليه وسلم - مشجعاً – : "لقد كنت أظن أن لا أحد يسأل عن
هذا قبلك .. لما رأيت من حرصك على العلم .. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة .. من
قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه .."
وسلمان الفارسي .. كان من خيار الصحابة ..
لم يكن من العرب .. بل كان ابناً لأحد كبار فارس .. وكان أبوه يحبه ويقربه
.. لدرجة أنه كان يحبسه في البيت خوفاً عليه ..
أدخل الله الإيمان في قلب سلمان رضي الله عنه ..
خرج من بيت أبيه ..
سافر إلى الشام باحثاً عن الحق .. احتال بعض الناس عليه وباعوه إلى يهودي
على أنه عبد مملوك ..
وحصلت له قصة طويلة .. حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدر له ذلك ..
فبينما كان صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه يوماً .. إذ أنزلت عليه
سورة الجمعة ..
فجعل صلى الله عليه وسلم يقرؤها على أصحابه .. وهم يستمعون ..
وهو يقرأ : (
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )
فلما قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ..
قال رجل من الصحابة : من هؤلاء يا رسول الله؟
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ..
فأعاد الرجل السؤال .. من هؤلاء يا رسول الله؟
فلم يرد عليه ..
فأعاد .. من هؤلاء يا رسول الله؟
فلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلمان ..
ثم وضع يده عليه وقال : لو كان الإيمان عند الثريا .. لناله رجال من
هؤلاء ..
وجهة نظر ..
تفاءل وأحسن الظن
بالناس ..وشجعهم ..لينطلقوا أكثر
85- فن الاستماع ..
مهارات جذب الناس وكسب قلوبهم .. بعضها يكون بفعل الشيء .. وبعضها يكون
بتركه ..
فالابتسامة تجذب .. كما أن ترك العبوس يجذبهم ..
والأحاديث الجميلة والنكات واللطائف تجذب الناس .. كما أن الاستماع إليهم
والتفاعل مع أحاديثهم .. يجذبهم ..
فما رأيك أن أتكلم معك هنا عن : الهدوء الجذاب!!
نعم .. بعض الناس لا يتكلم كثيراً .. ولا تكاد تسمع صوته في المجالس
والمتجمعات ..
بل لو راقبته في جلسة أو نزهة .. لرأيته لا يتحرك منه إلا رأسه وعيناه ..
نعم قد يتحرك فمه أحياناً بالتبسم .. لا بالكلام!!
ومع ذلك يحبه الناس .. ويأنسون بمجالسته ..
تدري لماذا؟!
لأنه يمارس الهدوء الجذاب ..
فن الاستماع له مهارات متعددة .. بل حدثني أحد المهتمين أنه حضر أكثر من
خمس عشرة دورة تدريبية في مهارات الاستماع..!!
قارن بين اثنين :
رجل إذا تكلمت بين يديه بقصة وقعت لك .. قاطعك في أولها وقال : وأنا أيضاً وقع
لي شيء مشابه ..
فتقول : له اصبر حتى أكمل ..
فيسكت قليلاً .. فإذا انسجمت في قصتك .. قاطعك قائلاً : صحيح .. صحيح ..
نفس القصة التي وقعت لي وهو أنني ذات مرة ذهبت ..
فتقول له : أخي انتظر .. فيسكت .. ثم ما يصبر فيقاطعك قائلاً :
عجل .. عجل ..
هذا الأول ..
الثاني ..
كان وأنت تتحدث معه أو معهم .. يتلفت يميناً ويساراً .. وقد يخرج جهاز
هاتفه من جيبه .. ويكتب رسالة أو يقرأ شيئاً من الرسائل .. أو من يدري لعله يلعب
بالألعاب الالكترونية الموجودة فيه!!
أما الثالث .. فيملك مهارات الاستماع .. تجد أنك تتحدث وقد ركز عينيه برفق
ينظر إليك .. وتشعر بمتابعته .. فهو تارة يهز رأسه موافقاً .. وتارة يتبسم ..
وتارة يضمّ شفتيه متعجباً .. وربما ردد : عجيب .. سبحان الله ..
أي هؤلاء ستكون راغباً دائماً في مجالسته .. وتفرح بزيارته .. وتنبلج
أساريرك في الحديث معه..؟ لا أشك أنه الأخير ..
إذن جذب قلوب الناس .. لا يكون فقط بإسماعهم ما يحبون .. بل وبالاستماع
منهم لما يحبون!!
أذكر أن أحد الدعاة البارزين ممن أوتي منطقاً ولساناً .. كان يتنقل متحدثاً
دائماً .. ما بين منبر جمعة .. وكرسي فتوى .. ومحاضرة في جامعة .. فهو دائماً
يتكلم .. ويتكلم .. ويتكلم ..
وكان الناس يرونه على المنابر والقنوات الفضائية ويحبونه ويرغبون في استماع
حديثه .. إلا زوجته .. فهو معها في البيت دائماً .. ولا يكاد يستمع منها حديثاً أو
قصة .. بل على عادته يتكلم .. ويتكلم ..
كانت كثيرة التذمر منه دون أن ينتبه إلى سبب ذلك ..
كان كل الناس يكرمونه ويمدحونه إلا هي .. فقرر أن يصطحبها معه يوماً إلى
إحدى محاضراته لترى ما لم تر ..
قال لها يوماً : ترافقيني؟
قالت : إلى أين؟
قال : محاضرة لأحد الدعاة .. نستفيد منها ..
ركبت معه في سيارته .. مشيا .. وقفا عند المسجد .. كانت الجماهير غفيرة ..
كلهم جاؤوا يستمعون إلى هذا المحاضر الفذ ..
دخلت هي إلى قسم النساء .. ودخل هو وسط جمهرة الناس واعتلى الكرسي وبدأ
محاضرته ..
كان الناس ينصتون معجبين .. حتى زوجته يبدو أنها كانت معجبة ..!
انتهت المحاضرة .. خرج إلى سيارته وسط نشوة النجاح .. وأقبلت زوجته وركبت
السيارة بجانبه ..
لم يدع لها فرصة .. بدأ يتكلم فوراً عن زحمة الناس .. وجمال المسجد .. و ..
ثم سألها : ما رأيك في المحاضرة؟
فقالت : كانت جميلة ومؤثرة .. ولكن من المحاضر؟
قال : عجباً لم تعرفي صوته .. قالت : مع زحمة الناس .. وضعف سماعات الصوت
لم أنتبه كثيراً ..
فقال – منتشياً - : أنا .. أنا المحاضر ..
فقالت : آآآ .. وأنا أقول في نفسي طوال جلوسي : ما أكثر كلامه ..
إذن .. الاستماع إلى الناس فن ومهارة ..
بعض الناس ينسى أن الله جعل لك فماً واحداً وأذنين .. ليستمع أكثر مما تكلم
..
وأظنه لو استطاع لقلب المعادلة .. من شدة محبته للحديث ..
فعود نفسك على الإنصات .. حتى لو كان لك على الكلام ملاحظة ..
في أوائل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .. كان عدد المسلمين قليلاً ..
وكان الكفار يكذبونه وينفرون الناس عنه .. ويشيعون أنه صلى الله عليه وسلم كاهن
وكذاب .. وربما أشاعوا أنه مجنون أو ساحر ..
في يوم من الأيام قدم إلى مكة رجل اسمه ضماد .. وهو حكيم له علم بالطب
والعلاج .. يعالج المجنون والمسحور ..
فلما خالط الناس سمع سفهاء الكفار يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
: جاء المجنون .. ورأينا المجنون ..
فقال ضماد : أين هذا الرجل؟ لعل الله أن يشفيه على يدي؟
فدله الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما لقيه .. قال ضماد : يا محمد .. إني أرقى من هذه الرياح .. وإن الله
يشفي على يدي من شاء .. فهلم أعالجك .. وجعل يتكلم عن علاجه وقدراته ..
والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه .. وذاك يتكلم .. والنبي صلى الله
عليه وسلم ينصت .. أتدري ينصت إلى ماذا؟ ينصت إلى كلام رجل كافر جاء ليعالجه من
مرض الجنون!!
آه ما أحكمه صلى الله عليه وسلم ..
حتى إذا انتهى ضماد من كلامه ..
قال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء : "إن الحمد لله .. نحمده ونستعينه
.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .. وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له "..
فانتفض ضماد وقال : أعد علي كلماتك هؤلاء ..
فأعادها صلى الله عليه وسلم عليه ..
فقال ضماد : والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما
سمعت مثل هؤلاء الكلمات .. فلقد بلغن ناعوس البحر ..
فهلم يدك أبايعك على الإسلام ..
فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده .. وأخذ ضماد يخلع ثوب الكفر ويردد :
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
فعلم صلى الله عليه وسلم أن له عند قومه شرفاً .. فقال له : وعلى قومك؟ أي
تدعوهم إلى الإسلام؟
فقال ضماد : وعلى قومي .. ثم ذهب إلى قومه هادياً داعياً ..
إذن لتكون مستمعاً ماهراً ..:
أنصت .. هز رأسك متابعاً ..
تفاعل بتعابير وجهك كتقطيب الجبين حيناً .. ورفع الحاجبين حيناً آخر ..
والتبسم .. وتحريك الشفتين بتعجب ..
وانظر إلى أثر ذلك فيمن يتكلم معك .. سواء كان صغيراً أو كبيراً ..
ستجد أنه يركز نظره عليك .. ويقبل بقلبه إليك ..
نتيجة ..
براعتنا في الاستماع
إلى الآخرين .. تجعلهم بارعين في محبتنا والاستئناس بنا ..