نختم اليوم موضوعنا حول الهجرة النبوية بالجزء الرابع والأخير الذي
خصصناه لمجموعة من الفوائد والدروس المستخرجة من هذه الهجرة النبوية التاريخية.
فوائد ودروس من الهجرة :
1ـ الإيمان بالمعجزات الحسية
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت
معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومن ذلك على ما روي نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة، ووعده إياه بأن
يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت
ثابتة بالسنة النبوية، على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل
نبوته ورسالته عليه السلام.
2ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم
ما داموا يثقون بهم ويأتمنوهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي
صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا
إليه راحلتيهما وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن
النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو
العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم،
كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدمه
الداعية لهم. أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل
الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي
ومعرفته بالشخص.
3ـ أد الأمانة إلى من ائتمنك
كانت أمانات وودائع المشركين عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب
الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون
أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، فكانوا لا يضعون
حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن كفرهم لم يكن
بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به،
وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم.
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي
رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، رغم هذه الظروف الشديدة التي
كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة
هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن
رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً
عن غيره.
4ـ اليد العليا خير من اليد السفلى
لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر رضي الله عنه واستقر الثمن ديناً بذمته،
وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات،
فهم مصدر العطاء في كل شيء.
إن يدهم إن لم تكن العليا فلن تكن السفلى،
وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى :
(وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) سورة الشعراء الآية 109.
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان ويبشرون بهما
ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد ـ إلا الله ـ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه
وقد تعود الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون
وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة
المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح
والحيوية والوضاءة.
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من
الله والأمل في رضاه غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف
الصوت، وقديماً قالوا : 'ليست النائحة كالثكلى' ولهذا قلَّ التأثيرُ وبعدَ الناسُ
عن جادَّةِ الصوابِ.
5ـ عفة الداعية عن أموال الناس
لما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن سراقة عرض
عليه سراقة المساعدة فقال : 'وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في
موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك' فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا
حاجة لي فيها".
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ
: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ ،
وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، قَالَ : "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ،
وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ"'.
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس،
وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله
تعالى.
6ـ حسن القيادة والرفق في التعامل
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين
في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا الحب الرباني كان نابعاً من
القلب وبإخلاص، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو
رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان
يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته
في حياته الخاصة والعامة وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله
أصابه من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسئولين في أمة الإسلام.
وصدق الشاعر عندما قال :
فإذا أحب الله باطن
عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت
لله نية مصلح
مال العباد عليـــــه
بالأرواح
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود
الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان
القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد
كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن
هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة
بالهجرة.
كيف نهاجر إلى الله ورسوله؟
الهجرة سلوك إيماني جهادي اختياري حسي ومعنوي،
شامل لكلية المؤمن وممتد في الزمان، يستجيب لأمر الله، ولا يريد إلا وجهه
"إني مهاجر إلى ربي" فهي هجرة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. هي
استجابة لنداء الله تعالى لرسوله وللمؤمنين معه. استجابة لا يعبأ بها إلا "الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، الذين سبق لهم من الله التوفيق والهداية
وبرهنوا على صدقهم بالبذل والاستقامة. حتى تكون هوية الهجرة هي العبودية لله
تعالى.
رابط الاجزاء السابقة : الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3