لا يفصلنا عن العام الهجري الجديد سوى ساعات
قليلة، ونحن على أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى
صلى الله عليه وسلم.
إنها
ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع، إنها وقفة نستقرئ فيها فصلا
من فصول الحياة خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، إنها رجعة إلى العقل في
زمن طاشت فيه العقول، ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
وسنتناول هذا الموضوع في أربعة اجزاء وهي :
الجزء الأول : الهجرة النبوية وكيف نستقبل
عامنا الجديد
الجزء الثاني : دروس تربوية من الهجرة النبوية
الجزء الثالث : دروس وعبر من الهجرة
الجزء الرابع : فوائد من الهجرة
نعم يحتفل المسلمون كل عام بالهجرة النبوية
نظرا لأهمية الحدث الذي جعله عمر رضي الله عنه بداية للتاريخ الهجري، لأن الهجرة
أهم حدث تاريخي، فهي تعني ولادة دولة الإسلام وبداية التمكين للمسلمين، ولم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من هاجر بأهله من الأنبياء فقد سبقه غيره
ومنهم أبوه إبراهيم ولوط عليهما السلام قال تعالى : (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي
باركنا فيها) وقال أيضا : (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) فالهجرة تعني
النجاة من الكفر وأهله ويأتي الله بعدها بالفرج، فلما هاجر إبراهيم عليه السلام
وهبه الله أولادا صالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب، كما هاجر إبراهيم بابنه
إسماعيل وأمه إلى مكة وبنى البيت ليكون مأوى أفئدة المسلمين (ربنا إني أسكنت
من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) ولا يهاجر نبي ولا مسلم
من مسقط رأسه وريعان شبابه ويترك أهله وقومه وكل شيء أحبه إلا لأجل ما هو أعظم منه
ألا وهو دين الله، وحب الوطن غريزة في النفس فقد قيل : وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالك. لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى
المدينة وقبله أصحابه منها إلى الحبشة إلا بعد أن أصبحت حياتهم فيها لا تطاق، وكاد
المسلمون يفتنون عن دينهم فجعل الله لهم فرجا ومخرجا، ولم يكد رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبلغ دعوته إلى قومه حتى ناصبوه العداء وحاربوه حربا شعواء وأغروا به
السفهاء فصبر صبرا لا تحتمله الجبال وآزره عمه أبو طالب حتى توفاه الله وكان يقول :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا، وحوصر رسول الله صلى الله
عليه وسلم في شعب أبي طالب ثلاث سنين ثم فرج الله عنهم، ولما توفي أبو طالب وخذيجة
رضي الله عنها ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد خيرا عند
زعماء ثقيف لكنهم لم يكونوا أحسن حالا من قومه فرجع محزونا باكيا يدعو الله أن
يهدي قومه وأن يفرج كربه، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي، ثم عرض نفسه على أحياء
العرب في المواسم إلى أن رزقه الله بالأنصار من يثرب فبايعهم بيعة العقبة الأولى
والثانية على أن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم
ولهم الجنة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا صحبة أبي بكر واجتمع قومه
وتآمروا على قتله فأنجاه الله منهم وأيده بنصره منذ خروجه من منزله، قال تعالى : (إلا
تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول
لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وحاول المشركون أن يرسلوا خلفه من يقتله ولكن
الله نجاه منهم ووصل يثرب ففرح أهلها بقدومه واستقبلوه أحسن استقبال فنزل في دار
أبي أيوب الأنصاري حيث بركت به ناقته وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدا
ومساكنا لأزواجه لكن فريقين لم يفرحا بقدومه، الفريق الأول هم المنافقون وعلى
رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف
بجانب بيته ينتظر أن يدعوه إلى المنزل فقال عبد الله : انظر الذين دعوك فانزل
عندهم، والفريق الآخر هم اليهود وعلى رأسهم زعيمهم حيي بن أخطب فعندما سأله أخوه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال عداوته في نفسي ما حييت، كانت
الهجرة حدثا عظيما تحول فيه المسلمون من ضعف إلى قوة وقامت أول دولة إسلامية رفعت
راية الدعوة والجهاد.
بماذا يجب ان نستقبل عامنا الهجري :
أود أن أذكر نفسي أولاً وإخـواني المسلمين بما
ينبغي علينـا أن نستقبل به العام الهجري الجديد، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وتنبه
الغافلين، وتعين الذاكرين، فأقول :
1- ينبغي على المسلمين أفراداً وجماعات،
رعاة ورعية، علماء وعامة، نساء ورجالاً، أن يحاسبوا أنفسهم بأنفسهم حساباً شديداً
صارماً قبل أن يحاسبوا، وعليهم أن يزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم، وليتزينوا
ليوم العرض الأكبر، على ما صدر منهم في العام المنصرم والأعوام السابقة، فإن وجد
المرء خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليعجل بالتوبة والإنابة قبل فوات
الأوان واجتماع الحسرتين : حسرة الموت، وحسرة الفوت.
2- تجديد التوبة الصادقة النصوح من جميع الذنوب
والآثام، وعدم الثواني في ذلك أو التسويف فيها.
3- على المسلمين أفراداً وجماعات، شباباً ورجالاً،
الانعتاق والتحرر من الولاء لغير الله، فلا يدعوا غير الله عز وجل، ولا يستغيثوا
بغير الله، ولا يصرفوا شيئاً من العبادة لغير الله، فإن فعلوا شيئاً من ذلك فقد
أشركوا مع الله غيره، وعليهم أن يجددوا إيمانهم.
4- الانعتاق والتحرر من تقليد الكفار والتشبه بهم،
خاصة في مناهج التربية والتعليم، والتحدث برطاناتهم وتعلمها من غير ضرورة، والتشبه
بهم في المخبر والمظهر، في اللبس والأعياد ونحوها.
5- التحرر والانعتاق من التأريخ بتواريخ الكفار،
والعودة إلى العمل بتاريخنا الهجري، فهذا من أضعف الإيمان، فمن لم يقو على مخالفة
الكفار في هذه الأمور فلن يقوى على مخالفتهم في غيرها من الأمور الكبار.
6- الاهتمام باللغة العربية، وإعادة النظر في
الوسائل والطرق التي تدرّس بها.
7- بعث روح الأخوة الإيمانية بين المسلمين، فقد
كان أول عمل قام به سيد الخلق بعد هجرته إلى المدينة، وبعد بناء مسجده، أن آخى بين
المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم، وبين الأنصار الذين آثروهم على أنفسهم
وأهليهم، عن طريق التكافل، خاصة الفقراء منهم، وأن لا ندعهم للمنصرين الذين يحملون
المساعدات إليهم بالشمال ويحملون الإنجيل باليمين.
8- ينبغي للمسلمين جميعاً أن يعلموا أن اليأس
والقنوط من رحمة الله من الكبائر العظيمة، وعليهم أن يقاوموا ذلك في نفوسهم، وأن
يعملوا على اجتثاث ذلك من نفوس غيرهم، خاصة الشباب، فالاستسلام لليأس، والقنوط،
والرضا بالواقع من أقوى عوامل الهزيمة.
9- اعلم أخي المسلم أن العزة لله، ولرسوله،
وللمؤمنين، ولكن المنافقين والمتخاذلين لا يعلمون؛ فلا خير في مؤمن لا يعتدُّ
ويعتز بدينه؛ وتذكر خطاب الله عز وجل للفئة المؤمنة عقب انهزامهم في أحد : (ولا
تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون )؛ فالمؤمن هو الأعلى بإسلامه، وبتوكله على
ربه، وبثقته بأن العاقبة للمتقين، وبأن النصر بيد العزيز الحكيم، لمن أخذ بأسبابه،
وعمل بمقتضى شرعه وخطابه.
10- علينا أن نوقن يقيناً صادقاً جازماً أن الله قد
أعزنا بالإسلام، وأن من طلب العزة في غيره أذله الله، أو كما قال الخليفة الملهم
عمر بن الخطاب.