نخصص هذا الجزء الثالث من موضوعنا الهجرة النبوية للدروس والعبر
المستخرجة من هذه الهجرة العطرة والمليئة فعلا بالكثير والكثير من الاشياء والأمور
التي تخدم الامة الاسلامية والمجتمع ككل.
دروس وعبر تضيء الطريق للأمة :
لا احد ينكر أن لهذا الحدث العظيم دروس وعبر
لابد ان يقف عندها كل مسلم، ليتعلم منها ويتمعن في النظر اليها لتكون له نورا
ونبراسا في حياته.
1- إخلاص العمل لله
ويتجلي هذا الدرس في قوله صلى الله عليه
وسلم حينما هم بالرحيل من مكة : "إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن
أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا طبيعي فيها نشأ صلى الله عليه وسلم
وترعرع، وفيها نزل عليه الوحي، ولكن رغم ذلك لم يستكين إلى حبها وفضل حب
الله عز وجل ورضاه ودعا ربه "اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في
أحب البقاع إليك". وهذا درس بليغ.
2- الثقة بالله
علينا دائما ان نثق بالله في السراء والضراء، ونرى ذلك حينما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة
مكرهاً فلم يجذع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما نصره الله سبحانه وتعالى
بالإسلام وظهور المسلمين لم يزده زهوا وغرورا؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً
كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء
الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
3- اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين
فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة
إلى زوال واضمحلال. ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة
للتقوى وللمتقين. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل
الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا
يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون
للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
4- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة
ذلك في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر
رضي الله عنه لمّا كان في الغار. وذلك لما قال أبو بكر : والله يا رسول الله لو أن
أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم مطمئناً له :
"ما ظنّك باثنين الله ثالثهما".
فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة
بالله، والإتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات
الحرجة، هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند
المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
5- ملازمة الصبر في جميع أعمالنا
قد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن
النبي صلى الله عليه وسلم جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛
ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد،
ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
6- تعظيم الاسلام لدور المرأة
قد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها
فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد : منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا
القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين التي
ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء،
وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت : 'لما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل
بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا : أين أبوك يا بنت أبي بكر؟
قالت : قلت : لا أدري والله أين أبي؟ قالت : فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً
خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت : ثم انصرفوا'.
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء
المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين من الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة
أمام قوى البغي والظلم؟ وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو
قحافة، وقد ذهب بصره، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت : كلا
يا أبت، ضع يدك على هذا المال. قالت : فوضع يده عليه، فقال : لا بأس، إذا كان ترك
لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن
أسكن الشيخ بذلك.
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت
قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي
كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله
الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً
وثقه به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها،
فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف
لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع إخوتها في مكة، لا تشكو ضيقاً،
ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه،
وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة
بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأم بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن
أبي بكر بعيال أبي بكر، فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة
بن النعمان.
7- تعظيم دور الشباب في نصرة الحق
ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي
طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
ويتجلى من خلال ما قام به عبد الله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود
بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر.
رابط الاجزاء السابقة : الجزء 1 الجزء 2