random
مقالات عشوائية :

اليقين وثمراته (الجزء الثاني)

الصفحة الرئيسية
اليقين وثمراته (الجزء الثاني)

اليقين وثمراته (الجزء الثاني)


تتميما للموضوع الذي نشرناه البارحة -والذي تحدث عن اليقين والآثار المرجوة له- تجدون اسفله الجزء الثاني المخصص للثمرات المرجوة لليقين :

1- الإخلاص لله والمتابعة للرسول :

إن الموقن بلقاء الله عز وجل يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث ان الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء، والعجب، والمن، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة، يوم أن يكون في أشد الحاجة إليها؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، قال تعالى : (قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الكهف  الآية 110 .


2- الحذر من الدنيا والصبر على شدائدها  :

إذا أكثر العبد ذكر الآخرة، وكانت منه دائماً على بال، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب، وحينئذ لا يكترث بزهرتها، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها : القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها؛ يقول تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) القصص الآية 77.
كما يتولد أيضا من هذا الشعور، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل، قال تعالى : (إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) النساء الآية  104. وما ان يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة، قال تعالى : (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَـا يَظْهَرُونَ 33  وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُـرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ 34 وَزُخْرُفـا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتـاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِـرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ35) الزخرف


3- التزود بالأعمال الصالحة واجتناب المعاصي :

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
الأول : محبة ما يرجوه.
الثاني : خوفه من فواته.
الثالث :سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأمــاني، والـرجــاء شـيء والأماني شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات. قال رسول الله : من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلـعـة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الـصــالـحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقـتـرن به العمل، قال تعالى : (إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لايُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ 61) المؤمنون.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال : "لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافـون أن لا يتقبل منهـم، أولئـك يسارعون فـي الخيرات". والله سبحانه وصف أهل السـعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقيـاء بالإسـاءة مع الأمن. وقال تعالى : (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة : 218 .
يقــول ابن القيم رحمه الله : فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهـذه الطاعات؟ وقال المغرورون : إن المفرطين المضيعين لحقـوق اللـه المعطلـين لأوامـره الباغـين المتجرئين على محارمـه، أولئك يرجون رحمة الله.

4- اجتناب الظلم :

نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر، وأنه لا شيء يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض، كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب، وأنه لا يضيع عند الله شيء، كما قال تعالى :  (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء : 47، وقوله تعالى : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) طه : 111، إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحنة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلاً عن غيرهم، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات. فيا ليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله عز وجل وخوف الوقوف بين يديـه، واليقـين الحـق بأن ذلك كـائن في يـوم لا ريب فـيه؛ قال تعالى : (إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ 30 ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ 31) الزمر.


5- حصول الأمن والاستقرار  :

إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله عز وجل واليقين بالآخرة والجزاء والحساب، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام؛ لأن تعظيم الله سبحانه سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله عز وجل بديلاً، ولا تقبل لاستسلام إلا لحكمه، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء، فلا تحاكم إلا لشرع الله، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة، فلا خيانة ولا غش ولا ظلم، ولا يعني هذا أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، لكن هذه المعاصي تبقى فردية، يؤدّب أفرادها بحكم الله عز وجل وحدوده، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله، والحالات الفردية تلك ليست عامة، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من الآخرة، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير، حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف، وبالتالي لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار وانتشار الخوف واختلال حياة الناس.


6- تقصير الأمل وحفظ الوقت :

إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد طول الأمل، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها. ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل والتذكر الدائم لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها، هو العلاج الناجح لطول الأمل وضياع الأوقات. يقول ابن قدامة رحمة الله : واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان :

أ) حب الدنيا

إن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع من الفكر في الموت، الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.

ب) الجهل

  وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، رغم علمه ومشاهدته في محيط إقامته بأن هذا ليس صحيحا وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإن استبعد ذلك.


7- سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق :

لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه، ومن لا يؤمن بالآخرة، أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنهـا، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) الحشر : 20.
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هـذه الحياة، وأن مرده إلى الله عز وجل في يوم الجزاء والحساب والنشور، مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده، وهو عن الآخرة من الغافلين. إنهما لا يلتقيان في التفكير، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكـام، وبالتالي فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه. قال تعالى في وصف أهل الدنيا : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم  الآية 7.


رابط الجزء الأول : اليقين وثمراته (الجزء الاول)

google-playkhamsatmostaqltradent