نتابع معكم اخواني واخواتي القراء الاعزاء موضوع 'الانسان خلق وعمل'، حيث سنتناول في هذا الجزء الثاني : العلم والعمل به ثم حسن الخلق
حَمْلُ العلم بدون عمل حجة علينا :
إن
الدين خلُقٌ، وهكذا ينبغي أن نفهمه، كما أن هذه الفقرة من الحديث النبوي الشريف
تبيّن ذلك بوضوح : "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبِقها" رواه
مسلم، "القرآن حُجَّةٌ لك أو عليك" رواه مسلم. إنْ تحوّل العلم إلى عمل
صار حجة للشخص وإذا لم يتحول إلى عمل صار حجةً عليه، ونرى الرسول صلى الله عليه
وسلم إذ يقول : "اللهم انفعني بما علّمتني وعلّمني ما ينفعُني وزدني
علماً" رواه الترمذي. إن العلم حقيقة يقتضي اليقين، وإنه لا ينفصل عن
السلوك، وإذا لم يوجد سلوك وفق هذا العلم انتفى العلم. فإذا وصلت المعلومة إلى
الذهن واستقرت في القلب، أنتجت درجة اليقين الذي ينتج الطاعة المطلقة: (أَمْ
مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) الزمر الآية 9. إذن
الذي هو قائمٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هو العالم
حقاً، وليس الذي يعرف كذا وكذا من الآيات والأحاديث ويقرأ عدداً من الكتب .المهم هو عملية التحويل من الجانب النظري إلى الجانب السلوكي. فأثر
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ كثيراً من الكلام من مجلس رسول
الله صلى الله عليه وسلم، بل يأخذ طرفاً قليلاً ثم يذهب ليحوّله، ويأتي ليأخذ
طرَفاً آخر. وقد أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قضى ثماني سنوات وهو
يتعلم سورة البقرة، أي يردها إلى واقع، ويجاهد نفسه في ذات الله سبحانه وتعالى لكي
يحوّلها إلى واقع خاضع للتوجيهات القرآنية.
العَمل بالعلم هو الطريق لنشر الإسلام :
لا
قيمة لما يُعلم ما لم يحوَّل إلى عمل، وإن المسلم إذا أحسن العمل بما يعلم فقد
مهّد السبيل لنشر دين الله عز وجل، ومهّد السبيل كل التمهيد لجعل الناس يُقبِلون
على الله وعلى دين الله سبحانه وتعالى وعلى كلمة الله سبحانه وتعالى. وإذا أساء
التطبيق فساء الخلُق ومن ثم أبعدَ الناسَ عن طريق الله سبحانه وتعالى، لأنه في هذه
الحالة يكون قد مثّل ضرباً من اللبس والإشكال. فلذلك كانت أهمية الخلُق، الذي ألح
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزله تلك المنـزلة الرفيعة فقال : "إن
الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" رواه أحمد.
حسن الخلُق يشمل كل جوانب الدين :
يشمل
حسن الخلُق كل جوانب الدين، وعلى رأس ذلك 'الإيمان الحسن'، لأن الشرك سوء خلُق، أي
إن الشرك الذي هو أكبر كبيرة موجودة في الدين هو عبارة عن سوء خلُق، لأن نعمة
الوجود نعمة تستحق كل شكر، وإذا أضفت إليها نعمة الإمداد بكل ما يحتاج إليه
الإنسان من هواء يتمتع به، وشمس تدفئه، ومناظر تعجبه، ومأكولات تغذيه إلى غير ذلك
مما لا يحصى من النعم، فكم تحتاج هذه النعم عندها من شكر؟ هل الإنسان أوجدها؟ إذن
هل يوجد شيء أقبح من الشرك؟. قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة الآيتين
21 و22، وكيف تشرك معه غيره وقال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان
الآية 13، كما أن الظلم في العربية هو : وضع الشيء في غير موضعه.
الإخلاص لله من أعظم الأخلاق الحسنة :
وحسن
الخلُق مع الله عز وجل يشمل بالدرجة الأولى الإخلاص، لأنه هو المقابل للشرك. ففي
صريح القرآن الكريم نجد أن الذي يقابل الشرك هو الإخلاص، وليست اللفظة السائدة التي
تسمى 'التوحيد' التي يُتكلم عنها كثيراً، والسبب هو طبيعة هذا الدين التطبيقية،
لأن التوحيد يحيل على الجانب النظري ولا وجود له في كتاب الله عز وجل، بينما
الإخلاص يُحيل على سلوك قلبيٍّ. والإخلاص ليس فكرةً قارة في الدماغ، ولكنه ممارسةٌ
للقلب البشري، أي سلوك ممارس وذاك الذي عليه المعول. لأننا لما نقول لفظة الربوبية عمَلياً نكون قد
استخضرنا ما هو آت من عند الله عز وجل إلى العبد من نعَم لا تُحصى؛ مثل الرحمة
والخلُق والرزق… أي كل أسماء الله الحسنى التي تفيد بأن أشياء آتية من عنده إلى
العبد، فكلها تدخل في إطار الربوبية، أما الألوهية فتأتي من العبد، فهي من عند
العبد طالعةٌ وصاعدة إلى الله عز وجل، وثَمّ مكانُها، أي هل قلبُ العبد يتعلق
بالله سبحانه وتعالى فقط أم به وبغيره أو بغيره فقط؟ لأن القلب هو محل الإخلاص
ومحل الهوى أيضاً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم
حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به" رواه البخاري ومسلم .يجب أن يطوّع الهوى للشريعة، والدرجة الرفيعة في هذا التطويع هي أن
تجد حلاوة في ذلك : "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن
يقذف في النار، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل" رواه البخاري ومسلم،
وهذه درجة أخرى تسمى حلاوة الإيمان، والسعيد مَن وصلها .إذن مقابل الشرك في كتاب
الله عز وجل هو الإخلاص، والسبب هو طبيعة هذا الدين؛ العملية التطبيقية، لأن
الإخلاص هو سلوك القلب وفيه تتجلى العبديَّة الحقيقية لله عز وجل، والعبودية
الحقيقية ثمة. ولذلك هذه المنطقة للقلب منطقة لا تُرى، وهي منطقة حرام على ما سوى
الله عز وجل، "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم" رواه مسلم. وعلى هذا الشيء كان القلب هو الذي معه 'الكلام'،
لأن الجريمة تنبت نزغاً من الشيطان في القلب؛ في الأول تكون فقط طائفاً من الشيطان
أي خاطراً أو نزغاً، ثم تتحول إلى فكرة، ثم إلى قول أو إلى فعل. فالإسلام يحاصرها
في المهد، الإخلاص يحاصرها في منطقة التلقيح والنشوء في وسط القلب…(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) فصلت الآية 36، أي انتقل إلى الله سبحانه وتعالى بسرعة واقطع على
الشيطان الطريق، فإذا تم قطع الطريق عليه في القلب لم يبق له المرور إلى اللسان ثم
إلى الممارسة السلوكية. وهذا السلوك القلبي -وهو الإخلاص- من أحسن الخلُق مع الله
عز وجل.
حُسْنُ الخلُق يشمل إحسان العلاقة بالله وبالناس :
هناك
حُسْن السلوك مع الناس بدءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك حُسْن الخلُق
مع النفس… فكيف لجميع هذه الصور -أي لحسن الخلُق- أن تكون في صورتها الممتازة؟
نعم، يجب أن تتحول كلها إلى لباسٍ في القلب، أي الإحسان في العبادة سواء في
التفكير أو في التعبير أو في التدبير… ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تعليما لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وللمسلمين كافة : "لا تنسَ دبُر كل صلاة أن
تقول : اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك" رواه أبو داود. هذا
الإحسان في العبادة كلمة جامعة كالخاتمة، والآخَرَين يمهدان لها على الرغم من
أنهما منها… فحسن الخلُق هو الجانب المعتبر في الشريعة، وهو المعتبر عند الناس،
وهو الذي يُشاهَد عند الناس.
أحْسِن إلى الناس تَسْتَعْبِد
قُلُوبَهم
فطال ما
استعبد الإنسان إحسان
إن
الإحسان بصفة عامة هو رأس الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلُقاً، كما أن
هذا الإحسان هو المطلوب، أي إن الإنسان يحاول أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى
لتزكو وتستقيم على أمر الله سبحانه وتعالى؛ تفكيراً وتعبيراً وتدبيراً… ويحاول كف
أذاه عن الخلق بصفة عامة، وهو يكف أذاه بجميع أشكاله عن الناس، ويصبر على أذى
الآخرين، ثم ينتج الخير ما استطاع إليه سبيلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) الحج الآية 77.