أ.د.
الشاهد البوشيخي(*)
إن
هذا الدين الذي أكرمنا الله عز وجل به، هو منهاج للفكر والتفكير، ومنهاج للتعبير
وللتدبير والتسيير… فهو منهاج لتدبير شؤون الحياة الفردية والأسرية والعامة. وليس
المراد منه أن يكون مجموعة أفكار توضَع في خِزانة العقل، أي في جانب من الدماغ
لننفق منها في ظروف أو أوقات معينة، وإنما هو توجيهاتٌ ربانيَّةٌ، ورحمة متنزلة من
الله عز وجل في كتابه لتحُلَّ فينا قلباً وقالباً، لتحلّ فينا في الجانب النظري
أولاً؛ في الفكر وفي العقل وفي القلب، ثم لتتحول إلى سلوك أو إلى لباس كما في قوله
تعالى : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الأعراف الآية 26.
إذن، الدين في طبيعته تطبيقي وليس نظرياً أو شيئاً فكرياً فقط، بل هو أعمال أو
أفكار تظهر في سلوك وعمل، وهذا العمل نُعتبَر نحن منه ويُعتبَر الدين منه، أي
يعتبَر من الدين التفكيرُ والتعبيرُ والسلوكُ والتدبيرُ… وبما أن طبيعة الدين هي
هاته كان أكمل المومنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وهذا يعني أن الذي لَبِس الدين،
لابَسه الدين وخالطه فصار لباساً له فأصبح أحسن الناس، بل أكمل المؤمنين على
الإطلاق. كان من أكمل المؤمنين فعلاً إذا صارت توجيهاتُ الدين -بصفة عامة-
وتعاليمُه والرحماتُ النازلةُ من عند الله عز وجل ممثَّلةً فيه بنسبة عالية. أما
الذي تمثَّل فيه الدين مائة في المائة، فقد كان واحداً هو رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقد شهد له الله عز وجل بذلك فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
القلم الآية 4.
وشهادة السيدة عائشة رضي الله عنها كانت من هذا القبيل حينما سئلت عن خلُق رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت : 'كان خلُقه القرآن' رواه مسلم. إذن هو صلى
الله عليه وسلم جملةً يساوي تطبيقياً القرآنَ الكريم، لأن القرآن حالٌّ فيه
بمعناه، وحَالٌّ فيه بعمله. وهذا العمل الذي يتكون من التفكير ومن التعبير ومن
التدبير -بصفة عامة- عليه مدار الإنسان، أي إنه هو الإنسان، وليس الإنسان إلا
عملاً فقط. وعندما يموت هذا الإنسان لا يساوي إلا مجموعة أعمال صالحة أو طالحة.
وهذه النقطة في غاية الأهمية، لأن الدين ذو طبيعة تطبيقية، وليس المقصود به هو
الجانب النظري الذي يعتبَر أساساً فقط للعمل للآخر. إن الثمرة الحقيقة للدين هي
العمل، العمل المحسوس في مجالات متعددة… وقد تجلت هذه الحقيقة مع سيدنا نوح عليه
السلام عندما قال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) هود الآية 45، إذ نجد أن الله سبحانه وتعالى
وعَد سيدَنا نوحاً بأن ينجي أهله في الوقت الذي رأى ابنه قد غرق، فيتساءل : (رَبِّ
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وأنت وعدتني بنجاة أهلي (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ)،
وما دمتَ قد وعدتَ فأنت لم تخلف قطعاً، ولكن التفويض أدب النبوة مع الله سبحانه
وتعالى، ولذلك قال : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)؛ حكمتك عالية وما فعلته
قطعاً هو على مقتضى الحكمة، ولكن أريد أن أفهم يا رب؟! فأجابه سبحانه وتعالى :
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)
هود الآية 46، وبتعبير آخر : أنت يا نوح عمل صالح، وأهلك هم الأعمال الصالحة
وأصحابها هم أهلك، أي إذا وُجد مِن طينتك مَن ليس له عملٌ صالح فهو ليس من أهلك،
لأن العمل الطالح ليس من جنس العمل الصالح. إذن، الإنسان مجموعة أعمال، وإذا
استحضرنا أيّ شخصية في التاريخ نجد هذه الحقيقة واضحة؛ إذا ذكرنا فرعون -على سبيل
المثال- في القرآن، لا نرى طوله ولا قصره أو غلظه… ولكن نراه مجموعة من أعمال
معينة هي التي تكوِّن فرعون. وكذلك موسى عليه السلام، فهو مجموعة أعمال معيَّنة
تكوِّن لنا شخصيته في القرآن، وكذلك إبراهيم عليه السلام… فكل ذلك يدل على أن
الإنسان هو عبارة عن مجموعة أعمال. ومن أمثلة ذلك حوار نبي من أنبياء الله سبحانه
وتعالى مع قومه وهو سيدنا لوط عليه السلام : (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا
لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) الشعراء الآية 167، فهم ينظرون إلى
الفعل، وهو يجيبهم بالعمل : (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) الشعراء
الآية 168، ولم يقل : "إني لكم من القالين"، بل أبرز العملَ الذي هو
الأساس في الشخصية، وعليه المدار في الحياة والثواب والعقاب، بحيث لو افترضنا أنهم
غَيَّروا عملهم لتحوّل البُغْض إلى محبة ولَما قال لهم : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ
مِنَ الْقَالِينَ).
الدين سلوك لا دعوى :
إن الإنسان في نظرة الدين عبارة عن مجموعة من أعمال، حياً كان أو ميتاً، لأن العمل أساس الرابطة الإيمانية، وبناء كل شيء يتم عليه. إذن، الدين يتجه إلى الجانب التطبيقي بالدرجة الأولى، وهذا ما يراد من الإنسان؛ حيث لن يبقى بعد الموت إلا العمل. وعندما يوضع الإنسان في القبر، يرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع مالُه وأهلُه ويبقى عمله، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) الزلزلة الآية 7. وإن صغر هذا العمل، بل نية كان أو تفكيراً أو هماً بالشيء… فكل ذلك له عند الله أجراً .إذن، الدين ذو طبيعة تطبيقية وينبغي أن يظهر في المؤمن سلوكاً لا دعوى، سواء كانت الطبيعة التطبيقية قولية أو إشارية أو غير ذلك… المهم أن يظهر الدين عملاً ملموساً فعلاً .وقد ذكرنا جوانب ثلاثة يتجلى فيها هذا السلوك وهذا الخلُق : جانب التفكير، وجانب التعبير، وجانب التدبير.أما الجانب التفكيري فهو في غاية الأهمية، لأن
استقامة المنهج التفكيري الذي به نتلقى الأشياء ونعالجها ونُنْتج الأعمال في لحظة
التفكير فيها والتخطيط لها، تؤدي إلى استقامة الفعل وطيب النتائج، وأهميته تأتي من
كونه بداية الانطلاق، ثم عندما نريد إخراج ما فكّرنا فيه ينبغي أن يَخرُج بطريقة
مرضية عند الله تعالى. ومن ضوابطها الكبرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيراً أو ليصمت" رواه
البخاري. أنا وأنت نُنتِج 'فعلاً' اسمه 'القول'، و'القول' يدخل في العمل في النظرة
الإسلامية؛ فقول الإنسان من عمله، وتفكيره من عمله الذي سيؤجر عليه.
الإذن من الشريعة والحكمة :
إن القول الصواب في هذا الصدد يحتاج إلى شرطين : الإذن من الشريعة والحكمة.الأول
: ينبغي أن نفكر في القول قبل تصديره
باللسان إلى المستهلك المتلقي أي المستمع، أو ينبغي أن نفكر فيه هل هو إذا وزنَّاه
بالشريعة جائز قوله أو واجب أو مستحب أو على الأقل مأذون في قوله. نفكر فيه من هذه
الجهة، ونفكر فيه من جهة الصواب ومطابقته للواقع والمناسبة، ونفكر فيه من جهة
الباعث عليه، أي إن النية التي تقف وراءه تحتاج إلى التصحيح.
الثاني
: ينبغي أن يكون صواباً، وكلمة 'صواب' تعني
المطابقة لأمرين : المطابقة للنصوص الشرعية من ناحية، بحيث لا تصادم الشرع، ومن
ناحية أخرى المطابقة لمقتضى المقام؛ إذ لا تتم صوابية الأمر إلا بالإصابة في
الناحيتين. فقد يكون الاجتهاد سائراً حسب مقاييس الشريعة، ولكن صاحبه وصل إلى ما
ليس صواباً، لأنه لم يناسب ما ينبغي ولم يطابق ما ينبغي، أي لم يُصِبْ المفصل
بالضبط، فأصوبُ العمل يقتضي هذين الأمرين. فإذن الفعل الذي ننتجه، أي القول الذي
نقوله ينبغي أن يفكَّر فيه قبل تصديره، أي يجب أن نفكر هل هو بخير أو ليس بخير، أو
هل يناسب المقام أم لا؟.. هذه نقطة مهمة قد لا يُلتفَت إليها. فليس كل كلمة مشروعة
يمكن قولها في أي وقت وإن كان الكلام حقاً، وهذا أمر صريح في الشريعة. فسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم الذي هو رسول الله، ويتلقى عن الله، ولا أحد منّا يمكن حتى أن
يقاربه، مع ذلك حين قال للسيدة عائشة رضي الله عنها : "لولا أن قومك حديثو
عهدٍ بالإسلام، لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل" رواه مسلم. ها هو بيت الله
الذي اسمه 'الكعبة'، له أساس في الجانب الذي رفعه سيدنا إبراهيم عليه السلام، وفيه
جانب كان سيدنا إسماعيل عليه السلام قد رفعه والذي يسمى الآن بـ'الحجر'، وحتى
الحائط القصير الدائري هو من الكعبة. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع
البيت على أصله الكامل، ولكن العرب حديثو العهد بالإسلام، أي في حالةِ ما إذا مس
الكعبة وأحدث فيها ضرباً من التغيير قد تقع فتنة. فدرءاً لهذه الفتنة أوقف صلى
الله عليه وسلم هذا الحق والخير العظيم. إذن -وهذا ما يسمى بـ'الحكمة'- مطابقة
السلوك والتصرف لمقتضى الحال هو ما نشرح به الصواب.
كيف يصبح الكلام عملاً :
فإذن "من كان يومن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت". أما إذا اختل في القول شرطٌ من الشروط السابقة، أو لم يتبين لنا لا هو خير ولا هو غير خير وحِرْنا فيه، فعندها نطبق القاعدة المعروفة للورع : "دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه الترمذي. يؤول الأمر في النهاية إلى أن مَن تمحضت خيريته، هو الذي ينبغي إنتاجه وقوله، وما لم تتمحض خيريته يُترَك جانباً .وكلمة سيدنا عبادة رضي الله عنه تَصبُّ في هذا المعنى، فقد قال : 'منذ بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمتُ كلمة، إلا مزمومة مخطومة'. ويعني أنه كان قبل ذلك يتكلم كما يتكلم الناس، لكن مع مجيء الإيمان أصبح الكلام عملاً وعليه ثوابٌ أو عقاب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم" رواه أحمد. اللسان خطير، ولخطورته جعل الله سبحانه وتعالى له قفلين؛ قفل الأسنان، وقُفل الشفتين، حتى لا يفتح عما يقال إلا بعد وزنه والتفكير فيه. إذن، لا وجود للكلمة الحرة التي يمكن أن تخرج وحدها بدون ضابط وتفكير… فإذا كان العقل يسبق اللسان فلا خوف، وأما إذا كان اللسان يسبق العقل فهناك الخوف. ولذلك فالتسرُّع ليس من خصائص أتباع هذا الدين جملةً، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِـأشجِ ابن عبد القيس : "إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل، الحِلْم والأناة" رواه مسلم، أي السير بتمهُّلٍ.
المسلم في وضع الشهادة والحجة :
وإن نقطة 'التمهل' راعتها الشريعة في مناسبات مختلفة؛ راعتها مثلاً في المشْي: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) الفرقان الآية 63، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) الفرقان الآية 64، راعتها في تسيير الأمور : (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) الإسراء الآية 106، أي وقسَّطناه تقسيطاً : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الفرقان الآية 32، مرة واحدة. التمهل في كل شيء مراعى لسيْر المتمهل الهادئ، كما يراعى هذا التمهل والتدرج في جميع الأمور. نعم، تأتي ظروف استثنائية تقتضي السرعة في التصرف، ولكن تلك الظروف استثنائية. يطلب إذن، أن يكيف الإنسان سلوكه وفق الدين، أي أن يماشي السلوك على حسب الدين في جميع جوانب حياته، لأن المسلم ليس إنساناً عادياً، بل إنه في وضع الشاهد والحجة، والحجة لا تقام إلا إذا استجمعت شروطها. المسلم شاهد على الناس بما أنه من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو من موقع الشاهد على غيره في هذا الموقع. فإذن هل الشهادة هي اللسان فقط؟ لا، اللسان عنده قيمة فقط في التبليغ، ولكن الشهادة الحقيقية تتم بوجود الشخص على هيئة معينة، أي على أنه ممثل للدين تمثيلاً صحيحاً، وإن لم يكن كذلك يمثل تنفيراً من الدين، والمطلوب أن يكون عنصر جاذبية. المسلم له جاذبيته بحكم تمثيله للدين وبحكم خلُقه، فإذا كان خلُقه غير الخلُق الشرعي فهو يصد الناس عن الدين ويُنفرهم منه، أي يمنع الناس من الاقتراب من الدين. ونحن الآن على المستوى العالمي في هذا الموقع، فنمنع بقية العالم الذي ليس في العالم الإسلامي الذي لم يرث الدين، نمنعه من أن يدخل إلى الدين بسبب كوننا لسنا ممثلين للدين، لأننا لو طبّقنا لحصلت لنا القوة ولحصلت لنا الإمامة، وإذا حصل لنا هذا حصل لنا كمال الإيمان بإذن الله سبحانه وتعالى، وحصل لنا العلو وحصلت لنا السيادة ولم نبق في هذا الموقع الذي نحن فيه.
(*) الأمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية بالمغرب.