حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ
لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِر
يَقُولُ : "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ".
شرح الحديث (*)
1) قَوْله : "يَنْزِل رَبّنَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا"
اِسْتَدَلَّ
بِهِ مَنْ أَثْبَتَ الْجِهَة وَقَالَ : هِيَ جِهَة الْعُلُوّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجُمْهُور
لِأَنَّ الْقَوْل بِذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّحَيُّز تَعَالَى اللَّه عَنْ
ذَلِكَ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النُّزُول عَلَى أَقْوَال : فَمِنْهُمْ
مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِره وَحَقِيقَته وَهُمْ الْمُشَبِّهَة تَعَالَى اللَّه
عَنْ قَوْلهمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ صِحَّة الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي
ذَلِكَ جُمْلَة وَهُمْ الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة وَهُوَ مُكَابَرَة،
وَالْعَجَب أَنَّهُمْ أَوَّلُوا مَا فِي الْقُرْآن مِنْ نَحْو ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا
مَا فِي الْحَدِيث إِمَّا جَهْلًا وَإِمَّا عِنَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ
عَلَى مَا وَرَدَ مُؤْمِنًا بِهِ عَلَى طَرِيق الْإِجْمَال مُنَزِّهًا اللَّه
تَعَالَى عَنْ الْكَيْفِيَّة وَالتَّشْبِيه وَهُمْ جُمْهُور السَّلَف، وَنَقَلَهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْره عَنْ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالسُّفْيَانَيْنِ
وَالْحَمَّادَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَغَيْرهمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَوَّله عَلَى وَجْه يَلِيق مُسْتَعْمَل فِي كَلَام الْعَرَب، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَفْرَطَ فِي التَّأْوِيل حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُج إِلَى نَوْع مِنْ التَّحْرِيف،
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْن مَا يَكُون تَأْوِيله قَرِيبًا مُسْتَعْمَلًا فِي
كَلَام الْعَرَب وَبَيْن مَا يَكُون بَعِيدًا مَهْجُورًا فَأَوَّل فِي بَعْض
وَفَوَّضَ فِي بَعْض، وَهُوَ مَنْقُول عَنْ مَالِك وَجَزَمَ بِهِ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ اِبْن دَقِيق الْعِيد، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَأَسْلَمَهَا
الْإِيمَان بِلَا كَيْف وَالسُّكُوت عَنْ الْمُرَاد إِلَّا أَنْ يَرِد ذَلِكَ عَنْ
الصَّادِق فَيُصَار إِلَيْهِ، وَمِنْ الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ اِتِّفَاقهمْ عَلَى
أَنَّ التَّأْوِيل الْمُعَيَّن غَيْر وَاجِب فَحِينَئِذٍ التَّفْوِيض أَسْلَم.
وَسَيَأْتِي مَزِيد بَسْط فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب التَّوْحِيد إِنْ شَاءَ اللَّه
تَعَالَى.
وَقَالَ اِبْن
الْعَرَبِيّ : حُكِيَ عَنْ الْمُبْتَدِعَة رَدّ هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَعَنْ
السَّلَف إِمْرَارهَا، وَعَنْ قَوْم تَأْوِيلهَا وَبِهِ أَقُول. فَأَمَّا قَوْله
يَنْزِل فَهُوَ رَاجِع إِلَى أَفْعَاله لَا إِلَى ذَاته، بَلْ ذَلِكَ عِبَارَة
عَنْ مُلْكه الَّذِي يَنْزِل بِأَمْرِهِ وَنَهْيه، وَالنُّزُول كَمَا يَكُون فِي
الْأَجْسَام يَكُون فِي الْمَعَانِي، فَإِنْ حَمَلْته فِي الْحَدِيث عَلَى
الْحِسِّيّ فَتِلْكَ صِفَة الْمَلَك الْمَبْعُوث بِذَلِكَ، وَإِنْ حَمَلْته عَلَى
الْمَعْنَوِيّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل ثُمَّ فَعَلَ فَيُسَمَّى ذَلِكَ
نُزُولًا عَنْ مَرْتَبَة إِلَى مَرْتَبَة، فَهِيَ عَرَبِيَّة صَحِيحَة اِنْتَهَى.
وَالْحَاصِل أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ : إِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى
يَنْزِل أَمْره أَوْ الْمَلَك بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ اِسْتِعَارَة
بِمَعْنَى التَّلَطُّف بِالدَّاعِينَ وَالْإِجَابَة لَهُمْ وَنَحْوه. وَقَدْ حَكَى
أَبُو بَكْر بْن فَوْرك أَنَّ بَعْض الْمَشَايِخ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّله عَلَى
حَذْف الْمَفْعُول أَيْ يُنْزِل مَلَكًا، وَيُقَوِّيه مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
مِنْ طَرِيق الْأَغَرّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد بِلَفْظِ "إِنَّ
اللَّه يُمْهِل حَتَّى يَمْضِي شَطْر اللَّيْل، ثُمَّ يَأْمُر مُنَادِيًا يَقُول :
هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَاب لَهُ" الْحَدِيث. وَفِي حَدِيث عُثْمَان بْن
أَبِي الْعَاصِ :"يُنَادِي مُنَادٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَاب لَهُ "
الْحَدِيث. قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَبِهَذَا يَرْتَفِع الْإِشْكَال، وَلَا
يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة رِفَاعَة الْجُهَنِيّ : "يَنْزِل اللَّه
إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول : "لَا أَسْأَل عَنْ عِبَادِي
غَيْرِي" لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدْفَع التَّأْوِيل الْمَذْكُور.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ : وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانه
مُنَزَّه عَنْ الْجِسْمِيَّة وَالتَّحَيُّز اِمْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُول عَلَى
مَعْنَى الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع أَخْفَض مِنْهُ، فَالْمُرَاد
نُور رَحْمَته، أَيْ يَنْتَقِل مِنْ مُقْتَضَى صِفَة الْجَلَال الَّتِي تَقْتَضِي
الْغَضَب وَالِانْتِقَام إِلَى مُقْتَضَى صِفَة الْإِكْرَام الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَة
وَالرَّحْمَة.
2) قَوْله : "حِين يَبْقَى ثُلُث اللَّيْل الْآخِر"
3) قَوْله : "مَنْ يَدْعُونِي إِلَخْ"
4) قَوْله : "فَأَسْتَجِيب"
5) قَوْله
: "فَأُعْطِيه، وَأَغْفِر لَهُ"
وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْله تَعَالَى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض
اللَّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفهُ لَهُ) الْآيَة. وَلَيْسَتْ السِّين فِي
قَوْله تَعَالَى "فَأَسْتَجِيب" لِلطَّلَبِ بَلْ أَسْتَجِيب بِمَعْنَى
أُجِيب، وَفِي حَدِيث الْبَاب مِنْ الْفَوَائِد تَفْضِيل صَلَاة آخِر اللَّيْل
عَلَى أَوَّله، وَتَفْضِيل تَأْخِير الْوِتْر لَكِنْ ذَلِكَ فِي حَقّ مَنْ طَمِعَ
أَنْ يَنْتَبِه، وَأَنَّ آخِر اللَّيْل أَفْضَل لِلدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار،
وَيَشْهَد لَهُ قَوْله تَعَالَى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) وَأَنَّ
الدُّعَاء فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُجَاب، وَلَا يُعْتَرَض عَلَى ذَلِكَ
بِتَخَلُّفِهِ عَنْ بَعْض الدَّاعِينَ لِأَنَّ سَبَب التَّخَلُّف وُقُوع الْخَلَل
فِي شَرْط مِنْ شُرُوط الدُّعَاء كَالِاحْتِرَازِ فِي الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب
وَالْمَلْبَس أَوْ لِاسْتِعْجَالِ الدَّاعِي أَوْ بِأَنْ يَكُون الدُّعَاء
بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَة رَحِم، أَوْ تَحْصُل الْإِجَابَة وَيَتَأَخَّر وُجُود
الْمَطْلُوب لِمَصْلَحَةِ الْعَبْد أَوْ لِأَمْرٍ يُرِيدهُ اللَّه.
(*) شرح هذا الحديث
اخذ من كتاب فتح الباري لشرح صحيح البخاري رحمه الله