ان الشريعة الاسلامية لا تكلف العبد فوق طاقته، لأن ذلك سيفقده اثقان العمل. وامرنا كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تأخذ من العمل ما نطيقه، ولذلك سنتناول حديثين للنبي حول هذا الموضوع مستخرجين منهما عدة فوائد.
الحديث الأول :
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ :
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ
بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَقُلْتُ هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ وَزَعَمُوا أَنَّهَا
لاَ تَنَامُ اللَّيْلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "لاَ
تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لاَ يَسْأَمُ
اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا " متفق عليه.
غريب الحديث :
تطِيقُونَ : من أطاق هذا الأمر
إطاقةً، وهو في طوقه، لأنه إذا أطاقه فكأنَّه قد أحاط به ودار به من جوانبه،
وطَوَّقتُكَ الشيءَ، إذا كَلَّفْتُكَه، فكلُّه من هذا الباب.
وأَطاقَ الشيءَ إذا صار في وُسْعِهِ، وقُدْرَتِهِ، والطَّاقة : اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقة منه.
الحديث الثاني :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ
بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ : "مَا هَذَا الْحَبْلُ؟" قَالُوا :
هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم : "لاَ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا
فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ" متفق عليه.
غريب الحديث :
فَتَرَتْ : فَتَرَ، الفاء والتاء والراء
أصلٌ صحيح يدلُّ على ضَعْفٍ في الشيء. ومنه فَتَرَ الشيءُّ، يَفْتُر فُتُورًا.
والفَتْرَة، الانكسار والضعف.
من فوائد الحديثين :
1- بيان شفقة الحبيب صلى الله عليه
وسلم ورحمته بأمته وسماحة شريعته حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم واستقامة
عبادتهم وأمرهم بالتيسير في النوافل، ونهاهم عن التشديد فيها، ليمكنهم الدوام
عليها بلا مشقة أو ملل؛ لأن النفس تنشط إلى ما تطيق من العبادة، ويحصل لها المقصود
من العمل، وهو حضور القلب، وانشراحه، فتتم العبادة مع المواظبة عليها ويكثر الثواب
لتكرر العمل وملازمته.
2- الترغيب في المثابرة على الطاعات والمداومة على المستحبات، ومما يعين على ذلك وينشط له، الاقتصاد في النوافل، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
فالغلو في العبادة إلى حدِّ الضجر والضرر نذيرٌ بانقطاعها، أو بذلها بِكلفةٍ دون خشوع وانشراح قلبٍ، فيفوت خير عظيم وقد ذم الله سبحانه من ألِفَ فعل البرِّ ثم قطعه، بقوله تعالـى : (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) سورة الحديد الآية 27.
قال النووي رحمه الله : 'القليل الدائم خيرٌ من
كثير ينقطع، وإنما كان خيرًا لأن به دوام الإقبال على الله سبحانه بالطاعة والذكر
والمراقبة، وإخلاص النية، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع
أضعافًا كثيرة'.
3- من مداخل الشيطان على العبد فتح باب
الغلو في الدين والتعمّق في النوافل ليشغله عن الفرائض وطلب العلم. فينهمك في أداء
المستحبات ويأتي بصورتها الظاهرة مع فراغ القلب من تدبّرها والخشوع فيها، وإعراضه
عن مهمات الدين فيعتريه النقص حيث ابتغى الكمال.
4- عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير
المنكر الذي رآه -وهو الحبل الممدود بين ساريتي المسجد- فأمر بحلّه، وفي رواية
أنه حلَّه، ويكون بهذا قد جمع في التغيير بين اليد واللسان وهو أعلى مراتب
الإنكار.
5- في حديث أنس رضي الله عنه جواز تنفّل
المرأة في المسجد، ما لم يكن فيه مفسدة، فإن زينب رضي الله عنها كانت تصلَّي
التطوع في المسجد ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
6- وفي الحديثين اجتهاد نساء السلف رضي
الله عنهم في الطاعات وبذل أنفسهن في الفضائل والمستحبات، وطول القيام في الصلاة،
والضراعة والمناجاة، وإرغام أبدانهن، ومجاهدتها على مغالبة الراحة، والتجافي عن
المضاجع، تقربًا إلى الله سبحانه.
7- هذه الأحاديث لا تنافي هدي النبي صلى
الله عليه وسلم في الاجتهاد في العبادة والإكثار منها والمداومة عليها وإن أضرَّ
بنفسه فصلى حتى تتفطر قدماه أو صام حتى يواصله يومًا ويومين، لأنه أعطي من الجَلَد
والصَّبر والقوَّة ولذَّة العبادة ما لم يؤت غيره، ففارقهم.
لقد آتاه الله سبحانه قرة العين بذكره
والتنعّم بحبه، وبهجة النفس بطاعته والشوق إلى لقائه فلا شيء ألذَّ له من طاعته،
وطيب حياته بعبادته، فحاله أفضل الأحوال وأكملها.
8- في قوله عليه الصلاة والسلام : "لا
يسأم الله حتى تسأموا " وفي رواية : "لا يمل الله حتى
تملُّوا ".
ذكر صفة السأم والملل المضافة إلى الله
عزَّ وجل في مقابل ملل العبد وسأمه.
ومعنى السأم والملل : استثقال الشيء،
ونفور النفس منه بعد محبته، وإعراضها عنه لما نابها من مشقة وتعب. وهذا المعنى
جائز في حق المخلوق، محال على الله تعالى باتفاق.
ومن أهل العلم من جعل هذا الحديث من نصوص
الصفات المثبَتَةِ لله تعالى على وجهٍ يليقُ به، لا نقصَ فيه، كنصوص صفة السخرية
والمكر والخداع المساقة على صيغة المقابلة اللفظية والمشاكلة بين قسمي الكلام.
وصفة الملل المضافة لله تعالى مسماة لحقيقتها،
وأنها في حقّ الله تعالى أعلى مرات الحسن والحق والعدل والحكمة في جزاء المسيء
بجنس عمله ومعاقبته بمثل فعله، وهي في حق العبد قبحٌ وذمٌ وانتقاص.
9- كره كثير من السلف إحياء الليل كله
بالصلاة، ويتأكد النّهي لمن خشي أن يُضر قيامه بصلاة الفجر، فينام عن الفريضة أو
يتأخر عن إدراكها أو يأتيها وبه فتور وكسل.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة
حسنة فقد قالت عنه عائشة رضي الله عنها : 'ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قام ليلةً حتى الصَّباح' رواه مسلم.
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة
هديه والرغبة عن سنته بمواصلة الليل في التهجّد، والغلو في النوافل، فقال :
"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج
النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه.
ومعنى : "من رغب عن سنتي" أي من حاد
عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاجه إعراضًا وتنطعًا هلك بالبدع، "فليس
مني" : أي ليس متبعًا هديه، ولا هو على طريقته، ولا يلزم أن يخرج عن الملة.
10- اختلف أهل العلم في حكم التعلّق
بالحبل لدى الكسل والتعب من طول القيام في النوافل. والراجح – والله أعلم – منعه.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله وإن
احتاج إلى الاتِّكاء اعتمد على عصا، وحلَّ الحبل أو أمر بحلِّه، وقيل هو من
فعل اليهود.
قال القاضي عياض رحمه الله : أما الاتكاء على
العصي لطول القيام في النوافل فما أعلم أنه اختلف في جوازه والعمل به، إلا ما روي
عن ابن سيرين في كراهة ذلك ا. هـ
لكن إن بلغ الإرهاق والتعب بالمصلي إلى حدّ
العجز عن القيام لولا الاتكاء فعليه أن يقعد، وحكمه مثل الحبل الممدود لزينب رضي
الله عنها.