اخواني واخواتي القراء الاعزاء، مع الجزء الثالث والاخير من موضوع 'اقوال وحكم السلف الصالح' رضوان الله عليهم :
ما خيرٌ في الدنيا إلا للآخرة
جاء في 'تهذيب الكمال' للمزي (7/481) في ترجمة العابد الزاهد الفقيه حيوة بن
شريح بن صفوان التجيبي أبي زرعة المصري رحمه الله تعالى ما نصه :
«قال أحمد بن سهل الأُرْدُنِّيُّ، عن خالد بن الفِزر : كان حيوة بن شريح
دَعّاءً من البكائين، وكان ضيق الحال جدًا، فجلست إليه ذات يوم، وهو متخلٍّ وحده
يدعو، فقلت : رحمك الله، لو دعوت الله أن يوسع عليك في معيشتك. فالتفت يمينًا
وشمالاً فلم ير أحدًا، فأخذ حصاة من الأرض فقال : اللهم اجعلها ذهبًا.
فإذا هي والله تِبرةً في كفه ما رأيت أحسن منها فرمى بها عليَّ، وقال : ما خير
في الدنيا إلا للآخرة.
ثم التفت إليَّ فقال : هو أعلم بما يصلح عباده.
فقلت : ما أصنع بهذه؟
فقال: استنفقها، فهبته والله أن أراده».
بادر فإنك مبادرٌ بك
جاء في كتاب 'اقتضاء العلم العمل' للحافظ الخطيب البغدادي (ص114) عن يوسف بن
أسباط أنه قال : كتب إليَّ محمد بن سَمُرَة السائح بهذه الرسالة : أي أخي، إياك
وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك، فإنه محل الكلال، وموئَل التلف، وبه
تقطع الآمال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك وهواك عليه فعلاً، واسترجع من بدنك
من السآمة ما قد ولى عنك، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة.
وبادر يا أخي فإنك مبادرٌ بك، وأسرع فإنك مسروعٌ بك، وجدَّ فإن الأمر جدٌّ،
وتيقظ من رقدتك، وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت وقصرت، وفرطت وجنيت وعملت، فإنه
مثبت محصى، فكأنك بالأمر قد بَغَتَكَ، فاغتبطت بما قدمت، أو ندمت على ما فرطت.
سقوط العالِم سقوط العالَم
جاء في 'مقدمة حاشية ابن عابدين' (1/67) ما نصه : «رأى الإمام أبو حنيفة
غلامًا يلعب بالطين، فقال له : يا غلام، إياك والسقوط في الطين. فقال الغلام
للإمام : إياك أنت من السقوط، لأن سقوط العالِم سقوط العالَم. فكان أبو حنيفة لا يفتي
بعد سماع هذه الكلمة إلا بعد مدارسة المسألة شهرًا كاملاً مع تلامذته».
المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب
جاء في كتاب 'إحياء علوم الدين' (3/36) للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله أنه
قال :
«فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم، لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل
بعين الرضا بعضهم، وبعين السخط بعضهم، ولذلك قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط
تبدي المسايا
فيجب الاحتراز عن ظن السوء، عن تهمة الأشرار، فإن الأشرار لا يظنون بالناس
كلهم إلا الشر، فمهما رأيت إنسانًا سيء الظن بالناس طالبًا للعيوب، فاعلم أنه خبيث
الباطن، وأن خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو، فإن المؤمن يطلب المعاذير
والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق».
لا أمين إلا من يخشى الله
جاء في كتاب 'الزهد' لعبد الله بن المبارك رحمه الله (491) عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قال : «لا تتعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحتفظ من خليلك إلا
الأمين، فإن الأمين ليس شيء من القوم يعدله، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب
الفاجر فيحملك على الفجور، ولا تفش إليه بسرك، وشاور في أمرك الذين يخشون الله
تعالى».
لأن تلقى الله حانثًا خيرٌ من أن تلقاه قاتلاً
جاء في كتاب 'تاريخ الخلفاء' لجلال الدين السيوطي رحمه الله (ص320) في ترجمة
الخليفة العباسي أبي العباس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد رحمه الله تعالى عن
إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : «وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له :
والله لأقتلنك، فقال : يا أمير المؤمنين بأنَّ عليَّ، فإن الرفق نصف العفو. قال :
كيف وقد حلفت لأقتلنك؟ فقال : لأن تلقى الله حانثًا خير من أن تلقاه قاتلاً. فخلى
سبيله».
أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علمًا
جاء في كتاب 'أخلاق العلماء' للآجري (ص110و111) عن حجاج بن عمير بن سعد، قال :
«سألت علقمة عن مسألة، فقال: ائت عبيدة
فاسأله. فأتيت عبيدة، فقال : ائت علقمة. فقلت : علقمة أرسلني إليك. فقال : ائت
مسروقًا فاسأله. فأتيت مسروقًا، فسألته، فقال، ائت علقمة، فاسأله. فقلت : علقمة
أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك. فقال : ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى.
فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فسألته، فكرهه، ثم رجعت إلى علقمة، فأخبرته،
قال : كان يقال : أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علمًا».
بئس الأخ أخًا يرعاك غنيًا ويقطعك فقيرًا
جاء في كتاب 'المتحابين في الله' لابن قدامة المقدسي (ص79) عن الأسود بن كثير
أنه قال : «شكوت إلى محمد بن علي بن الحسين الحاجة وجفاء الإخوان. فقال : بئس الأخ
أخًا يرعاك غنيًّا، ويقطعك فقيرًا، ثم أمر غلامه، فأخرج كيسًا فيه سبعمائة درهم،
فقال : استنفق هذه، فإذا نفدت، فأعلمني».
من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه
جاء في كتاب 'طبقات الشافعية' للإمام السبكي رحمه الله تعالى (2/99) ما نصه :
«قال الشافعي رحمه الله تعالى : من تعلم القرآن، عظمت قيمته. ومن نظر في الفقه،
نبل قدره. ومن كتب الحديث، قويت حجته. ومن نظر في اللغة، رق طبعه، ومن نظر في
الحساب، جزل رأيه. ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه».
لا يمكَّن حتى يبتلى
جاء في كتاب 'الفوائد' للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (ص269) ما نصه : «سأل
رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى؟ فقال
الشافعي : لا يمكن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم
البتة».
سلطان جائر سبعين سنة خير من أمة سائبة ساعة من نهار
جاء في 'ترتيب المدارك' للقاضي عياض (2/493) في ترجمة الإمام الفقهي قرعوس بن
العباس بن قرعوس بن حميد الثقفي أبو الفضل القرطبي الأندلسي – المتوفى سنة 220هـ -
ما نصه :
«كان ممن اتُهم بالهيج والقيام بالرّبض – أي الخروج – على السلطان، فسيق فيمن
سيق مُلببًا، ووقف به تحت النطع –أي قدم لتضرب عنقه-، وكلمه على لسان الأمير، وقال
له :
مثلك من أهل الديانة والأمانة في العلم، يتابع السفلة. فلو نفذ لهم أمرًا كم
كان يهتك من الستور ويستحل من الفروج، إلى أن يقوم إمام يريح الناس. فقال : معاذ
الله أن أفعل وأن أقع في مثل هذا، بيدٍ أو لسانٍ، فقد سمعت مالكًا والثوري يقولان :
سلطان جائر سبعين سنة خير من أمة سائبة ساعة من نهار. فقال له الحكم : أنت
سمعت هذا منهما؟ قال : لقد سمعته منهما، فخلى سبيله».
الرعية لا يصلحها إلا العدل
جاء في 'البداية والنهاية' لابن كثير (10/126) في ترجمة الخليفة العباسي عبد
الله بن محمد بن علي أبي جعفر المنصور رحمه الله أنه قال لابنه المهدي : «إن
الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها
إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من
هو دونه. يا بني استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر
بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ونصيبك من رحمه الله».
غضب الأمير أهون من غضب الله
جاء في 'العقد الفريد' لابن عبد ربه (4/25) ما نصه : «دخل جامع المحاربي على
الحجاج وكان جامع شيخًا صالحًا خطيبًا لبيبًا جريئًا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى
مدينة واسط : بنيتها في غير بلدك. وتورثها غير ولدك. فجعل الحجاج يشكو له سوء طاعة
أهل العراق وقبح مذهبهم، فقال جامع : أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما
شنئوك لنسبك ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك،
والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد
وعدك.
فقال الحجاج : ما أرى أن أردَّ بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف.
قال جامع : إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار.
قال الحجاج : الخيار يومئذ لله.
قال جامع : أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله.
قال الحجاج : إنك من محارب يا هناه.
قال جامع :
وللحرب سُمِّينا وكنا محاربًا
إذا ما القنا أمسى من
الطعن أحمرا
قال الحجاج : والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك.
قال جامع : إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، وغضب الأمير أهون
علينا من غضب الله.
قال الحجاج : أجل، وسكت».