إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا، فوقّر أباه، وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل رجالا، والأخلاق واقعًا ملموسًا، إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي. إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله وما أدراكم ما عمر؟! رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، لنقف عند بعض مواقفه، لنتذكر، وننظر، ونعتبر، والتاريخ يقرأ.
اقرؤوا التاريخ إذ به العـبر ضل قوم ليس يدرون الخـبر
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ) فحي إلى بحر عمر لنبحر ومن لآلئه لنقبس ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.
تولى الخلافة فكان مجددًا بحق رضي الله عنه ورحمه، كانت خلافته ثلاثين شهرًا لكنها، خير من ثلاثين قرنًا، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.
بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية، وقف يتحدث للناس قائلا : 'لقد بُويِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم'. فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء : قد اخترناك ورضينا بك فبكى وقال : 'الله المستعان'، ثم أوصاهم من على المنبر قائلا : 'أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته : أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم'. ونزل عن المنبر، وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلا : 'ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوحُ كما يروحون'.
عاد لبيته معلنًا أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزينًا يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة - بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحي هلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبدًا بعد اليوم. قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله : بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقي.
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء. فما ليلنا ونهارنا؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. ملأ الأرض عدلا بعد أن كادت تُملأ جورًا، هيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهدًا في كل ما جمع البشر، أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر، بعد كل صلاة ينادي منادٍ : أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال. فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
هو البحر مـن أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لـم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها، فليتق الله سـائلــه
رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيرًا كثيرًا، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحًا لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه، (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
ففي الحديث القدسي : " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن، إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة"، دخل عليه أحد العباد : وهو كعب القرضي، فجعل ينظر في وجهه فإذا به : وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال : يا عمر ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك. فينهد عمر باكيًا يقول : أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجبًا، وأعظم إنكارًا. فبكى محمد، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء. جعل الهم همًا واحدًا، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى.
عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعًا لما يقول، ولم يعطِه شيئًا فخرج، وهو يقول : رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء
وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم : 'لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني'. فكتب له سالم مولى أبي حُذَيْفَة : صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده، وكتب له مطرف بن عبد الله : يا أمير المؤمنين لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم؟. جمع سبعة من الصالحين، وقال : 'أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة :
- أولهـا: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحدًا
- وثانيها : لا تتحدثوا في الدنيا.
- وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبدًا.'
فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتابًا شديدًا يقول فيه : يا أمير المؤمنين لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميدون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون. فلما قرأ ذلك انهد باكيًا، قائلا : 'اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون'.
حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيرًا، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول : 'لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم'. كان شديد المراقبة والخوف من الله إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه : ما بك يا عمر؟ قال : 'تذكرت قول الله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فخفت خوفًا أورثني ما تَرَين'.
عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلمودًا لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، يقول : 'والله ما رأيت متقيًا إلا وددت أني في جلده'.استدعى مزاحمًا يوم أن تولى الخلافة فقال : 'يا مزاحم : لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بكلابيبي وقل : اتق الله يا ابن عبد العزيز'. كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ.
والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضا لِصَوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتـة والكلب يُخزى -لعمر الله- نبَّــاح
كان رضي الله عنه لا يرضى مظلمة. دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟ قال : اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلانًا سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟ ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبدًا بعد اليوم.
قطع أُعْطٍيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا، وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه : قل لهم : (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران : لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام. فيا لله حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل. فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحًا، وعاد إلى البيت وما عاد معه بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة : هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت : لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال : والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ. فيا لله! وربِّ عمر إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال : يا هذا أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، كان شديد الخوف من الله جل وعلا، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول : 'يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سرورًا منذ تولى الخلافة عمر'، تقول فاطمة زوجه : أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعًا رأسه على يديْه تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول : قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه : فدنوت منه، وقلت : يا أمير المؤمنين كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلا : 'إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة -صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها-، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفًا دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً'، ثم انْهدَّ باكيًا رضي الله عنه ورحمه .
عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر، بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين : ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت. قالت : والله لا هذا ولا ذاك. لكني رأيت من عمر ليلةً منظرًا ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائمًا يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)، فصاح : واسوء صباحاه ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى : واسوء صباحاه، ثم قام، وهو يقول : وَيْلٌ من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان، فقام. تقول : فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.
هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربيًا ومعلمًا وأبًا وأخًا. هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بعمر، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية بات غاشًا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت، اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال : والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم. استدعى خادما له وقال : أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم : إي والله. قال : فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار. قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين. دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له : اُعْفُ عني عفا الله عنك.
قام وخطب الناس فكان مما قال : اتقوا الله قبل حلول الموت بكم إني لأقول هذا وما أعلم أحد عنده من الذنوب أكثر مما عندي. ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.
وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له : إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغارًا لا مال لهم فأوص بهم إليَّ، فجلس وقال : والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين : إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال : ادعوا أبنائي جميعًا فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبيًا كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال : أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة. فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وَلِيَّ فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين. انصرفوا -عصمكم الله-، فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول : رباه أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت، رباه ما عندي ما أعُدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أسلمَ الروح إلى باريها فرحمة الله عليه، جسد لُفِّفَ في أثماله، على ذاك الجسد كان يقول قبل وفاته : إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي. يقول رجاء : فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا. بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر،ُ فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله. ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أبًا لهم، والأيامى لهم كافلا، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيرًا، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عُمـرْ بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفـاتِك وَابلاً مِن مـاءِ غيثٍ منهمـرْ
يقول مسلمة : يرحمك الله يا عمر، لقد ليَّنتَ قلوبًا قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكرًا. ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيرًا ما يقول ويردِّد : 'إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال'.
مات عمر وما مات ذِكره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول : لو كان رجل يُحيِى الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله، ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له : لِمَ تبكي عليه وعمر على غير دينك؟ قال : يرحمه الله قد كان نورًا في الأرض فأُطفِئ.
هذه بعض من سيرة عمر. اقْتَدِ بعُمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصـال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجبًا يحْجِبُكْ