random
مقالات عشوائية :

لمحات بلاغية في آيات قرآنية : الجزء الاول


لمحات بلاغية في آيات قرآنية : الجزء الاول


     ما أجمل كتاب الله عز وجل ففيه خبر الأولين وخبر الآخرين، والله سبحانه وتعالى تكلف بحفظه من التزوير، وأن أي أحد من العالمين لا يقدر أن يأت بمثله نصا وبلاغة. وسنتطرق ان شاء الله في هذا الموضوع  الى لمحات بلاغية في بعض الآيات :

 

الجزء الاول :

1- لمحة في قوله تعالى : (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً)

قال  عز وجل : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)  

لسائلٍ أن يسأل :"لِمَ قدم الصغيرة على الكبيرة"؟ ومقتضى البلاغة أن يجعل في الصدارة نفي الأقوى لا الأضعف!

 

فإذا كان المقصود هو جمع مخازي القوم وإحصاء ما اجترحوه من السيئات، فإن ذكر تسجيل الكبيرة، بعد ذكر الصغيرة، ليس فيه فائدة ظاهرة لأنه يُعلم أن الكتاب إذا عد الصغائر عليهم فلا بد أن يكون قد عد الكبائر من باب أولى ..فيكون في ذكر "هذه" بعد "تلك" شائبة تحصيل الحاصل..

ولو ذكر الكبيرة قبل الصغيرة لجاء العطف أكثر فائدة..فإن المتلقي عندما يسمع : "...هذا الكتاب لا يغادر كبيرة.." لا يكون عنده علم بحال الصغيرة -فلعل الكتاب قد تجاوزها أو لم يسجلها..- فإذا سمع بعد ذلك "...ولا صغيرة…" استفاد …

 

جوابه :

أن المقام هنا ليس لبيان أن الكتاب قد أحاط بكل ما اقترفوه، فيستحسن ذكر الكبائر قبل الصغائر، لكن المقام للتبكيت والتعذيب في العرض، وقد نبهت الآية على هذا المعنى عندما قالت : "مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ" كما نبهت عليه من خلال صرخة الكفار من الضجر والخزي (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ).

وهذا المقام يقتضي ذكر الصغيرة قبل الكبيرة لوجهين :

 

أ- الصغائر عادة تكون أكثر من الكبائر فيشتد الإسهاب ويطول التقصي وهو مراد لتعذيب أصحابها.

 

ب- ذكر الصغائر على كثرتها سيزيد من التوتر على اعتبار أن هذه أهون مما سيأتي، ولو ذكر الكبائر أولا لفات هذا المعنى، بل سيكون في ذلك شيء من التنفيس على المجرمين، فالمخازي تصعب أكثر عند ترقبها لا عند مرورها.

فانظر إلى قوة التعبير في القرآن!

 

2- لمحة في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ…)

في الآية مطابقة بين "تفرون منه" و "ملاقيكم" ووجه المطابقة أن الفرار يقتضي وجود نقطة في الخلف يبتعد عنها، والملاقاة تقتضي عكس ذلك أي وجود نقطة في الأمام يقترب منها.

والطباق عندهم محسن معنوي من فن البديع، لكن الحق أنه في هذه الآية من المبينات لا من المحسنات!

فلنتأمل المقام عن كثب :

هؤلاء يفرون من الموت -على زعمهم- فيترتب عليه من المعاني ما يلي :

أ- المحذور موجود خلفهم.

ب- أبعد جهة عن المحذور هي الجهة المقابلة أي الأمام.

ج- الإمعان في الاقتراب من "الأمام" هو وحده سبيل النجاة.

 

ثم تأتي بعد ذلك الصدمة البيانية والنفسية : "فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ" ليفجر من المعاني ما يلي :

أ- الفرار من الموت كان في الحقيقة إهراعا إليه.

ب- رغبتهم في تغييب الموت كان في الواقع إحضارا له، فهم الآن محاصرون : فالموت خلفهم باعتبار وعيهم وأمامهم باعتبار الوجود.

ج- الصدمة القاتلة في خيبة الأمل فمكان النجاة هو عينه مكان الهلاك.

د- المفاجأة المذهلة فقد جاءهم الموت من حيث لا يتوقعون.

 

خلاصة المسألة أن الطباق في الآية أكبر من تحسين في المعنى، بل هو رصد لمفارقة مذهلة، وتسفيه لسلوك الكافرين، ومحل لبيان الاستدراج، ومناسبة لإظهار مبدأ الجزاء من جنس العمل.

فأي اختزان في المعنى وأي اختزال في اللفظ!

 

3- لمحة في قميص يوسف 

قال تعالى :

-(وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً)

-(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ)

-(اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)

 

هي أقمصة ثلاثة : قميص ادعاء، فقميص براء، ثم قميص دواء.

أ- قميص ادعاء :

القميص هنا وعاء، فهم ما جاؤوا "بقميص فيه دم كذب" بل جاؤوا" بدم كذب على القميص"، فيتأسس من التركيب أن يكون الدم الكاذب هو بؤرة الاهتمام، و ليس القميص الذي يشغل موقع الظرف فقط، -ومعلوم أن المفعولية تربو على الظرفية كرتبة العمدة في مقابل الفضلة- ولعل اهتمام الإخوة بالدم باعتباره محل الشاهد كان وراء ذهولهم عن القميص، فلم يؤهلوه للاستدلال -بتمزيقه مثلا- حتى أن يعقوب عليه السلام كان يرى أثر الدم، ولا يرى فيه خَرْقًا ، ويقول : يا بني ما كنت أعهدُ الذئب حليمًا؟ -حسب ما تناقله المفسرون- ويستفاد من المقام أن اختلاق الأدلة بصورة تامة غير ممكن، لصعوبة في إحاطة بكل التفاصيل، وانتباه إلى كل اللوازم. ومن ثم اشتهر عند كتاب الرواية البوليسية أن الجريمة المتقنة لا تكاد توجد.

 

ب- قميص دواء :

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا..

جاء تأخير الإشارة حاملا لمعنى التعريض الخفي، وهو مما لا يستشف لو قدم الإشارة أو ألغاها :

-اذهبوا بهذا القميص

-اذهبوا بقميصي

وتقدير التعريض -مثلا - : "اذهبوا بقميصي هذا، وليس ذلكم القميص الذي جئتم أباكم به من قبل!"

 

ج- قميص براء :

استدلال "الشاهد من أهلها "بالقميص في غاية الحصافة العلمية والذوق الاجتماعي :

 

*طرح النظرية مجردة أولا ثم التحاكم إليها ثانيا :

النظرية :

(إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ)

التطبيق :

(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)

والاستدلال على هذا النحو أبعد عن الباطل لأن المرء يكون قد قرر في حياد تام قاعدة معينة، فيكون رهينا بها، قاضيا على نفسه بقبول نتيجة الاختبار أيا كانت. على العكس ما لو تفحص الواقعة التجريبية أولا لأنه لا يؤمن أن تخترع النظرية لتمرير الواقعة أو زخرفتها.

فكان من حصافة هذا الشاهد -وهو من أهل المرأة- أن قرر القاعدة قبل تفحص القميص قياما بحق النزاهة والحياد.

 

*هذا الشاهد قام أيضا بحق "الإتيكيت" الاجتماعي و"العرف" الارستوقراطي، فهو عندما استعرض الحالتين الممكنتين بدأ وفق مقولة "النساء أولا"

(فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ)

فبدأ باحتمال صدقها وأخر فرضية صدق غريمها. في هذا جبر شكلي لخاطر المرأة باعتبارها أنثى أولا ومن أهله ثانية.

هذه ثلاث وظائف مختلفة للقميص في قصة يوسف، ولنا أن نلاحظ أيضا بديع التقابل فيها :

 

-التقابل بين حالي القميص من جهة الاستدلال :

القميص في سياق اختلاق الدليل وتزييف الوقائع (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).

القميص في سياق الدليل الصادق الحق، الذي يجلي الواقع كما هو لا كما يظهر، فكل الملابسات من شأنها أن تورط  يوسف  لولا ذلك القميص.

 

-التقابل في الآثار النفسية للقميص :

قميص يأتي بالأحزان وقميص ينهيها.

 يتبع...

google-playkhamsatmostaqltradent