بعدما تناولنا في الجزء الاول من حديث النبي صلى الله عليه وسلم حول
السبع الموبقات : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق والربا،
نختمه اليوم بشرح ما تبقى من الموبقات وهي : اكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات :
6- اكل مال اليتيم :
قوله صلى الله عليه وسلم : "وأكل مال
اليتيم" :
قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) النساء الآية 10 وقال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) الإسراء من
الآية 34 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
في المعراج : "فإذا أنا برجال وقد وكل بهم رجال يفكون لحاهم، وآخرون يجيئون
بالصخور من النار فيقذفونها بأفواههم، وتخرج من أدبارهم فقلت : يا جبريل! من
هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا"(38)
، وقال السدي رحمه الله تعالى : ‘يحشر آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب
النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، وأنفه، وعينه كل من رآه يعرفه أنه آكل مال
اليتيم’. قال العلماء : ‘فكل ولي ليتيم إذا كان فقيراً فأكل من ماله بالمعروف بقدر
قيامه عليه في مصالحه وتنمية ماله فلا بأس عليه، وما زاد على المعروف فسحت حرام
لقول الله تعالى : (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) النساء
الآية 6، وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال :
أحدها : أنه الأخذ على وجه القرض.
والثاني : الأكل بقدر الحاجة من غير إسراف.
والثالث : أنه أخذ بقدر إذا عمل لليتيم
عملاً.
والرابع : أنه الأخذ عند الضرورة فإن أيسر قضاه،
وإن لم يوسر فهو في حل.
وهذه الأقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره، وفي البخاري
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،
وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما"(39) ، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة
وأشار بالسبابة والوسطى"(40) وكفالة اليتيم هي القيام بأموره،
والسعي في مصالحه من طعامه وكسوته وتنمية ماله إن كان له مال، وإن كان لا مال له
أنفق عليه وكساه ابتغاء وجه الله تعالى، وقوله في الحديث : "له أو
لغيره" أي سواءً كان اليتيم قرابة، أو أجنبيا منه، فالقرابة مثل أن يكفله جده
أو أخوه أو أمه أو عمه أو زوج أمه أو خاله أو غيره من أقاربه، والأجنبي من ليس
بينه وبينه قرابة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ضم يتيما له أو
لغيره حتى يغنيه الله عنه وجبت له الجنة"(41) ، وقال : "من مسح رأس يتيم
لا يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة، ومن أحسن إلى يتيم أو
يتيمة عنده كنت أنا وهو هكذا في الجنة"(42).
7- التولي يوم الزحف :
قوله صلى الله عليه وسلم : "والتولي يوم
الزحف" :
والتولي هو : الفرار من الزحف، قال الله تعالى : (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا
تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا
مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنفال الآية 16. وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجتنبوا
السبع الموبقات، قالوا : وما هن يا رسول الله؟! قال : الشرك بالله والسحر
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم,والتولي يوم الزحف
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(43) ، قال ابن كثير رحمه
الله : ‘قوله تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : (يا
أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم (فلا
تولوهم الأدبار) أي تفروا وتتركوا أصحابكم (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال)
أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا
بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي. وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه
ليرى غرة من العدو فيصيبها (أو متحيزا إلى فئة) أي فر من ها هنا إلى فئة أخرى من
المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو
الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة’(44). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ‘لما
نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، فكتب الله عليهم، أن لا يفر عشرون
من مائتين، ثم نزلت الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة
صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
فكتب أن لا يفر مائة من مائتين’(45).
8- قذف المحصنات الغافلات :
قوله صلى الله عليه وسلم : "وقذف المحصنات
الغافلات" :
قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النور الآية 24.
وقال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ) النور الآية 4، بين الله تعالى في الآية أن من قذف امرأة محصنةً
حرة عفيفة بالزنا والفاحشة أنه ملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم،
وعليه في الدنيا الحد ثمانون جلدة، وتسقط شهادته، وإن كان عدلاً، وفي الصحيحين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : "اجتنبوا السبع الموبقات فذكر
منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(46) والقذف أن يقول
لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة يا زانية، أو يا باغية أو يا قحبة أو يقول : لزوجها
يا زوج الزانية، أو يقول :
لولدها يا ولد الزانية، أو يا ابن الباغية، أو يقول :
لبنتها يا بنت الزانية، أو يا بنت القحبة، فإن القحبة عبارة عن الزانية، فإذا قال :
ذلك أحد من رجل أو امرأة لرجل أو لامرأة كمن قال لرجل يا زاني، أو قال لصبي حر يا
علق، أو يا منكوح، وجب عليه الحد ثمانون جلدة؛ إلا أن يقيم بينة بذلك، والبينة كما
قال الله : أربعة شهداء يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة، أو ذاك الرجل فإن
لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه، وكذلك
إذا قذف مملوكه أو جاريته، بأن قال لمملوكه : يا زاني، أو لجاريته يا زانية أو يا
باغية أو يا قحبة، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما
قال"(47).
وكثير من الجهال واقعون في هذا الكلام الفاحش الذي عليهم
فيه العقوبة في الدنيا والآخرة، ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار
أبعد مما بين المشرق والمغرب، فقال له معاذ بن جبل : يا رسول الله! وإنا
لمؤاخذون بما نتكلم به. فقال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على
وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"(48) ، وفي الحديث : "من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"(49). وقال الله تبارك وتعالى في
كتابه العزيز : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قّ
الآية 18.
وقال عقبة بن عامر : يا رسول الله! ما النجاة؟ قال :
"أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، وإن أبعد الناس إلى الله
القلب القاسي" وقال : "إن أبغض الناس إلى الله الفاحش البذي، الذي يتكلم
بالفحش ورديء الكلام".
فوائد مستفادة من الحديث :
1- أن الشرك يحبط الأعمال وإن كانت كثيرة.
2- أن الشرك يخلد صاحبه في النار.
3- أن السحر شرك بالله وكفر به.
4- لا يجوز قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق.
5- أن المصر على الربا محارب لله.
6- أن آكل مال اليتيم ظلماً إنما يأكل في الحقيقة
نارا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا).
7- أن الفرار والتولي من المعركة لا يجوز وأن من فر
من المعركة خوفاً من العدو فإنه قد ارتكب كبيرة.
8- أن الله لعن القاذف للمحصنات وتوعده بالعذاب
العظيم فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
اللهم جنبنا الموبقات، ونجنا من المهلكات والكبائر ما
بطن منها وما ظهر وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الهوامش :
38 - رواه
مسلم.
39 - البخاري.
40 - رواه مسلم.